الاثنين، 7 مايو 2018

المشهد الثقافي بجنوب السودان ذاكرة الإبداع و تحولات الراهن (2-2)



المشهد الثقافي بجنوب السودان ذاكرة الإبداع و تحولات الراهن (2-2)
جيل الاستقلال ، الثراء و التنوع:
السياسات السودانية التي أعقبت انفصال الجنوب لم تُراعِ الخلفيات التاريخية ذات الارتباط العضوي في بعض المناحي وخاصة في مجال التعليم، فجامعة جوبا التي استقرت بمدن الخرطوم في مسيرة استقرارها الثانية عقب تأسيسها في العام 1997م ، كانت تُمثل قاعدة لعددٍ كبيرٍ من الطلاب المنحدرة أصولهم من إقليم جنوب السودان قبل الإنفصال ، بالطبع هنالك أعداد مقدرة في الجامعات الأخرى ، لكن تم إغلاق جامعة جوبا بطريقة غير محترفة حيث كان يمكن الإبقاء عليها وعلى اسمها إلى أن يتم تخريج آخر دفعة التحقت بالجامعة في العام 2011م، تلك الخطوة دفعت بكثير منهم إلى اللجوء الى الدراسة بمصر ودول شرق أفريقيا كينيا ويوغندا التي تحوي ما يُقارب الـ50000 طالب وطالبة بجامعاتها المختلفة، هذا الأمر يظهر تأثيره في انحياز هذا الجيل إلى الفن في شرق إفريقيا من حيث نوعية الغناء والرقص بالإضافة إلى الانضمام إلى ثقافة متابعة الأفلام والمسلسلات النيجيرية ، التي استطاعت السيطرة على نسب مشاهدة كبيرة بدول شرق أفريقيا ، بالرغم من ذلك فالأمر فتح نوافذ متعددة ، فأصبح هنالك من لازال يستمتع بأغنيات الراحل محمود عبدالعزيز لكنه يجمع بينها وبين الاستماع بذات المتعة لمن اكتشفهم في شرق إفريقيا من الفنانين دكتور كامليون وراديو أن ويزي وبيبي كول ، حتى لا نغفل التأثير الشمال أفريقي والشرق أوسطي للغناء كمحمول وفد إلى دول شرق أفريقيا مع الطلاب الذين قدموا من الخرطوم أو من مصر ،  فليس من الغرابة أن تتفاجأ بالـ(دي . جي)  في إحدى أندية شرق إفريقيا ، وهو يبث أغنيات من لفنانين من الخليج العربي أو الشرق الأوسط  فهي  تأتي في سياق المحمول الذي ظل يشكل حضوراً في الساحة  ، بل يعتبر هذا الجيل هو من أستطاع ربط الشمال الإفريقي بالشرق الإفريقي فظل ارتفاع أغنيات الفنان النوبي المصري محمد منير ، و رغم أنها بشكل محدود تشكل حضوراً في محيط  منابع النيل .
في ختام: الفقرة أود الإشارة إلى أنه يجب الفصل بين الهوية و بين التنوع في تلقي و تذوق الغناء ، و الانحياز إليه فلا يجدر بنا السقوط في وحل التحميل غير المنصف للغة الأغنيات و إشكالات الهوية ، فلو حدث ذلك فليس من مبرر يجعل كاتب المقال يعشق غناء بوب مارلي ، بذات المقام الذي يحتفي فيه بغناء الكثيرين على سبيل المثال ، محمد عثمان وردي ، مصطفي سيد أحمد ، محمود عبدالعزيز ، ،نانسي عجاج  ، النور الجيلاني ،  مانو دبانقو ، سالف كيتا ، محمد منير و القائمة تطول .
المشهد الآن :
في الساحة الفنية بجنوب السودان العديد من الفرق التي تعمل على احياء المشهد الثقافي مثل  الرقص الاستعراضي  الذي أخذ زمام المبادرة فيه معهد اورباب للرقص و الفنون الذي يقف على رأسها استيفن افيرا اوشلا، والذي أطلق المركز مبادرة عشان بلدي ووفقاً للحوار مع ملف الموقف الثقافي فان المبادرة هدفت إلى تقديم أغنيات وطنية تدعوا لإزالة الغبن و الكراهية والرعب الذي سكن نفوس المواطنين جراء الأحداث الأخيرة في مدينة جوبا [1] ، في سياق الحوار جاءت مشاركة استيفن في ورشة لتطوير الموسيقى في  شرق افريقيا و محاولة لوضع منهج عالمي موحد ، مع الإشارة إلى أن الورشة عقدت في أديس أبابا بإثيوبيا ، لعل ما يدفعني للتعليق هو أن إثيوبيا  الدولة المستضيفة تعتبر أحد دول القرن الإفريقي و ليس الشرق الإفريقي ربما تم اتخاذ أثيوبيا كموقع للانعقاد فقط لكن أن كانت بمشاركة أثيوبية فإن المؤتمر يُعنى بتطوير الموسيقى في الشرق و القرن الإفريقي وهنا تبرز مسألة السلم الخماسي و بذات المنحى فهنالك سؤال يطرح نفسه هل  يتبني معهد أورباب عبر تلك المشاركة تبني السلم الخماسي في أعماله ؟ إذا كانت الإجابة بنعم فهذا يعني أن المعهد يجلس على إرث ضخم من الأعمال الإبداعية التي سلكت السلم الخماسي على امتداد تاريخ ما عرف سابقاً ( بالسودان الموحد)
الفرق الفنية مثل ميقا اندبندت التي تكونت في العام 2010م بغرض الاستعداد لانفصال جنوب السودان و العمل من أجل انهاض ثقافة جنوب السودان ضد الثقافات التي اسماها مؤسس الفرقة اوتيم ديفيد في حواره مع الملف الثقافي لصحيفة الموقف في 28 سبتمبر2016م[2] ، وهنا يجب أن نشير إلى أن الاسم مأخوذ من لغة الاشولي و هي تعني الحاجة العظمية أو الحدث الأعظم و كان مقصود به انفصال جنوب السودان و ظهوره كدولة مستقلة كاملة السيادة في المجتمع الدولي ، ما يلفت الانتباه في تجربة ميقا إندبندت وفقاً لتصريح أوتيم ديفيد أن من التجارب المهمة التي خرجت بها الفرقة انها نجحت في أحداث تحولات في حياة بعض أفراد عضويتها البالغة 40 فرداً بعيداً عن حياة التشرد! هذه النقطة كما أشرت جديرة بالتوقف عندها و ذلك لكونها قابلة للتطور عند النظر إلى التجارب المشابهة و العابرة للحدود فتجربة ( إستيا لوسي)2 اليوغندية التي انطلقت في 2014م  و تمثلت في تكوين فرقة للرقص الذي أخذ ذات الاسم ( Sitya loss )  و التي تعني ( لا أخشي الخسارة) هي الاغنية التي كتبها الفنان إدي كنزو، استهدفت بعض الأطفال المشردين قبل أن تتطور الفكرة لتصبح أكثر تنظيماً ، و لعل المثير في التجربة هو الجديد الذي أسس به التجربة من رقص متفرد يعتمد على الحركات الرشيقة غير التقليدية الموجودة في الساحة ، بالإضافة إلى الطابع المسرحي  و الفضاء الذي أتخذ في البدء الشارع العام مسرحاً للأداء ، أضف إلى ذلك بعداً مهماً هو أنها انتبهت إلى أهمية الوصول إلى الجمهور عبر الفيديوهات التي راجت في الشبكة العنكبوتية قوقل عدد المشاهدات للتجربة  التي حملت أغنية  حوالي (643996 مشاهدة) 3 ، عند كتابة هذا المقال في 17 أكتوبر 2016م ، بذات القدر فان ميقا أندبندت ، و غيرها من التجارب في المسرح الثقافي العام لجنوب السودان يجب أن تنتبه للأمر فما يمكن أن يدفع به فيديو من خمس دقائق يعادل العديد من الصفحات المكتوبة ، فالثورة الرقمية أصبحت تطرق أبواب البيوت و القلوب بمحمولاتها الغنية لتتربع مرسخة بتلك التجارب مساحات على الذاكرة الإنسانية.
انطلاق منافسات المدارس الثانوية في مجال المسرح  في 12 أكتوبر 2016م [3]يعتبر حدثاً يحتاج إلى توثيق و رعاية من قبل الجهات المختصة ، فالحيوية التي تحتضنها مثل هذه المنافسات تغذي في المستقبل القريب الساحة الثقافية بفاعلين جدد و أفكار جديدة بالضرورة تعبر عن السير في طريق نحو التطور و الانتشار، أضف إلى ذلك فإن مساهمة جيل المسرحيين و المخرجين الجنوب سودانيين في مراقبة و متابعة هذه المواهب يجب أن تبدأ منذ  بالتزامن مع بداية الحدث لكي تترابط مسالة المجايلة و انتقال الخبرات و الدفع بها إلى المشاريع المسرحية الكبيرة ، فالتاريخ القريب لما عرف بالمليون ميل مربع قبل الانفصال وثق للدور الذي تعلبه هذه الفعاليات في تغذية المشهد العام بالمسرحيين و المخرجين و غيرهم من رواد حرفة المسرح .
فن النحت  الكدوس الخشبي :
حينما كانت أمسيات الخرطوم عامرة بالمدنية و الحب ، و كانت جوبا تنعم بإستقرار في فترات ما قبل بداية الحرب و الهدنة بين الحربين ، كان لفن النحت اليدوي و الأعمال اليدوية المبدعة سيطاً ، يرتاد رواد ذاك الفن من السودانيين و الأجانب  أسواق الخرطوم التي تخصصت في بيع تلك المشغولات و الجهد الفني البديع ، و كذلك سوق أمدرمان  ظل صناع و ملاك  ناصية هذا الفن الإبداعي الجميل تنحدر أصولهم من إقليم جنوب السودان سابقا ، لكن للتحولات الكبيرة في مسار الحركة المدنية في الدولة السودانية مثل إعلان قوانين الشريعة الإسلامية ، و عودة الحرب الأهلية في نسختها الثانية في العام 1983م ، أثر في ذاك الفن و لا عجب أن اكتشفنا أن الهوس الديني الذي تم وضع بذوره في أرض الواقع قد بدأ  يرسخ لمفهوم التحريم لبعض تلك المنحوتات عبر هجمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أضف أن حالة النزوح واللجوء قد فصمت عري تطور تلك الصنعة ، لكن برغم ذلك كان هنالك جيل من العاملين في المجال يصرون على ربط أواصرها عبر عرض أعمالهم في الشوارع العامة ( السكة حديد)  بالمنطقة الصناعية بالخرطوم ، بعد إعلان دولة جنوب السودان لم تتطور تلك الحرفة بالدولة والوليدة لأسباب منها أنها أصبحت حرفة غير ذات دخل مجزي في ظل ارتفاع تكاليف الحياة  اليومية .
دولة كينيا التي انتبهت للفراغ الذي تركته دولة جنوب السودان في ذاك المجال فكثفت جهودها في شغل الحيز الإبداعي بشكل كبير فتمكنت أن تصبح السوق الأولى في شرق إفريقيا بعد أن ربطة حركة النحت و العمل اليدوي بالسياحة ليسيران جنباً إلى جنب في تطور .
و لكن يظل لكل ثقافة ملمحها و لكل حرفة بصمتها تختلف زماناً و مكاناً وفقاً لمحمولات المجموعات التي تشكل ذاك الذهن المبدع ، فما يميز جنوب السودان في ذاك  المجال لا زال محتفظاً بمكانه شاغراً ، فلن تجد أجمل ما يمكن اقتنائه من ( كدوس خشبي) لماهر و مالك لحس الحرفة أناملاً و فكرة ، فكأن الكدوس هو البصمة التي لم تتمكن كينيا من تقليديه بذات علو الكعب ، أذن البحث العلمي و التقصي قد يكشف أن هنالك الكثير الذي لايزال بانتظار جنوب السودان للعودة إلى ساحة المنافسة الساحرة .
الجاليات  و التلاقح الفني:
التواصل بين الفن السوداني (سودانا ما قبل الانفصال)  ودول الجوار إثيوبيا وإرتيريا والصومال  في مجال الغناء ساعد في انتشاره تربع السلم الخماسي في دول القرن الإفريقي ، و ظل دور السودان رائداً حيث يُفصح عن ذلك في الساحة الفنية  الاحتفاء بالفنان محمد وردي في إستاد أديس ابابا في العام 1991م كفنان إفريقيا الأول إلى جانب الشهرة ذائعة الصيت للراحل سيد خليفة كأحد فناني الجيل من الرواد، ولعّل الحدود المفتوحة والحركة السكانية بين هذه الدول دفعت إلى ترديد العديد من الفنانين السودانيين بهذه الدول  ( في صفحته بالفيس بوك ذكر الصحفي مصطفي سري لقاءه مع وردي سائق التاكسي البريطاني صومالي الأصل بلندن ليكتشف أن سر الاسم ارتبط بعشق والده وردي للفنان محمد وردي )، الكثيرون من الصوماليين حتى من غير محترفي الغناء يرددون الغناء السوداني طرباً و استمتاعاً ، فالغالبية من الذين أستطلعتهم من جيل الشباب وقفوا عند حدود عشق الراحلان وردي  و سيد خليفة بل منهم من أدهشني بود خاص للفنان أحمد ربشة ، أما في كل من إثيوبيا وإرتيريا فقد ظل الراحل سيد خليفة يُمثل رقماً مهماً إلى جانب فنانين آخرين، في إثيوبيا لا غرابة أن يتم الترحيب بمقدم السودانيين إلى المحال العامة بتشغيل أغنيات سودانية  سواء بصوت فنانيها أو بأداء إثيوبي ولعّل الساحة تكشف يومياً عن الجولات الفنية للعديدين بين الدول، فزيارات الفنانة ندي محمد عثمان ( ندي القلعة) وأداؤها للأغنيات بلغة الأمهرينا تكشف ذاك العمق طبعاً إلى جانب آخرين أيضاً، بالمقابل فقد قوبلت زيارة الفنان الإثيوبي  تدي أفرو إلى الخرطوم في 2014م بحضور وتفاعل كبيرين ، إزاء هذا المشهد وبنقله إلى جنوب السودان نجد أنه قد تم نقل الفن السوداني لسودان ما قبل الانفصال عبر فناني دول الجوار إلى مدن إقليم جنوب السودان فساعد في انتشار آخر لذلك عبر طرف ثالث  نفذ إلى ذلك عبر بوابات مطار جوبا و معبري نمولي و كايا.
الغناء … فوق احتمال الحدود الجغرافية :
لم يقف الامر عند تلك المحطة فطروف حالة عدم الاستقرار التي شهدتها جنوب السودان في ديسمبر 2013م دفعت بالعديد من الجنوب سودانيين والأجانب إلى المغادرة إلى دولهم أو دول ثالثة مثل أوغندا وكينيا وأثيوبيا، هذه الهجرة الثانية عقب استقرار دام ثمانية سنوات استصحبت معها المحمول الفني الذي تشكل في جوبا، يقول صالح ( وأنا أدلف إلى أحد المراكز التسويقية بقلب العاصمة اليوغندية كمبالا، توقفت لبرهة لأتأكد من كلمات تلك الأغنية التي كانت تنبعث من هاتف يحمله شاب يوغندي، دون تردد وجدت نفسي أقف أمامه وألقي بالتحية عليه لأتأكد من أن كلماتها كانت أغنية  للفنانة ندي محمد عثمان (ندي القلعة) قبل أن أساله إن كان يعرف اللغة العربية أو الفنانة، هز رأسه بالنفي قبل أن يقول أنها إحدى الأغنيات التي أسكنها ذاكرة هاتفه عندما كان يعمل بمدينة جوبا بدولة جنوب السودان، وأضاف بأنه  رغم عدم فهمه لكلماتها لكنه معجب بالصوت والموسيقى )، كما أشرت أدت ظروف الحرب الثانية إلى خروج رؤوس الأموال من مدينة جوبا وأغلبها كانت في مجال الخدمات سواء الفندقة أو المطاعم فانتقلت إلى شرق أفريقيا تحمل معها ذات الذاكرة الغنائية التي تبثها الأجهزة سابقاً في جوبا  ( موسى عازف أورغن إرتيري الجنسية عاش لفترة من عمره بالمملكة العربية السعودية ليتعرف على الغناء السوداني عبر أصدقائه السودانيين قبل أن يُقرر السفر إلى جنوب السودان ليعمل عازفاً لعدة فرق إرتيرية وإثيوبية السبب المشترك بينها أداء الأغنيات السودانية إلى جانب الأغنيات باللغات الأمهرية والتقرنا، موسى من المعجبين بأغنيات الراحل إبراهيم عوض وطه سليمان ونانسي عجاج  بل يصر على أن ما يُميز الفرق التي عمل معها بالأداء المتنوع للأغنيات بخلفيات سودانية ولغاتها الأصلية ، استقر موسى بكمبالا العاصمة اليوغندية  كعازف يبحث عن التفرد في أداء أغنيات سودانية مع الفرق التي يعمل معها ، فموسى لم يزور الخرطوم أو أي من مدن السودان الشمالي لكنه تمكن من التقاط مدهش فترة وجوده بجنوب السودان .
عربي جوبا  والإنجليزية على قطار التحدي:
المشهد الثقافي وتشكُله في دولة جنوب السودان يحتاج إلى الاهتمام من قبل الدولة وذلك عبر إزاحة العصف السياسي الذي يتكتل عنوة على كاهلها ، فالارتباطات العضوية الثقافية بين السودانيين لا يُمكن مواجهتها بقراراتٍ سياسية ، فبالرغم من اعتماد اللغة الإنجليزية كلغةٍ رسمية ، لكن فرضها بحكم الواقع يُعتبر قرار سياسي في المقام الأول ، لأن عربي جوبا الذي يتفرع من اللغة العربية هو الشائع ، في تقديري الإصرار على اللغة الإنجليزية والتي تتم محاولة التبرير لها بأنها خطوة للانضمام إلى تجمع دول تحالف شرق افريقيا لا يصمد في الواقع وذلك لعدة اعتبارات واحدٌ منها أن المحاكم  لا تزال تجد سهولة في التعامل باللغة العربية وهو أمر طبيعي لأنها حتى الآن هي أداة المخاطبة الوحيدة التي يمكن التواصل بها بين المكونات المختلفة لمواطني دولة الجنوب، التجارب التاريخية التي يجدر الاهتمام بها أن السواحيلية لغة تشكلت على ذات نسق عربي جوبا لكنها في مسار تطورها استطاعت أن تكون لغة مشتركة لكل دول شرق أفريقيا بل ساعد الأمر في التبادل التجاري و غيره مما سار ليفرض في الواقع السياسي و الاقتصادي تجمع دول شرق إفريقيا الذي يعد أنشط و متقدم على تجمع دول غرب إفريقيا ، نخلص إلى أنه يجب النظر الجاد لما يتعلق باللغة لأنها ستضع هوية الدولة مفترق الطرق.
يجب أن أُشير إلى الإعلام: طال بالنظر إليه من جانب الحقوق هو استحقاق اختياري لابد أن يجد الاحترام لكن مع ذلك فإنه آن الأوان للنظر بعين موضوعية للانفصال كواقع بعيداً عن تلك العواطف التي تمت بها التعبئة أوان الاقتراع ، لأنه ببساطة الممارسات السياسية للحكومات المركزية بشكل عام وبشكل أدق سياسة الإسلاميين السودانيين والذراع السياسي حزب المؤتمر الوطني هو زاوج بين استخدام ذاك الحق والغبن الناتج عن سوء المعاملة الذي  اقترن كسمة في التعامل مع الحركة الشعبية وشعوب جنوب السودان في مرحلة تنفيذ الاتفاق وإبّان الحرب الأهلية وخلال  مراحل  عمر تجربة الحكم الوطني لما بعد الاستقلال، هذا الغبن تمت تعبئته بجفوة سياسية بين السودانيين دون الانتباه للتمييز بين مسلك الحكومات والشعوب السودانية التي في غالب الأحوال تُحاسب وفقاً لما يفعله الساسة, لعّل أثر ذلك ظهر في المعاملة بالمثل،  فقبل يومٍ من إعلان انفصال جنوب السودان في 10  يونيو 2011 م أغلقت الخرطوم ست صحف يومية بحجج أن بعض مُلاكها ينتمون إلى إقليم جنوب السودان بالرغم من الفترة الانتقالية التي تنص عليها الاتفاقية لم تنفذ بعد، إلا أن ما أقدمت عليه الخرطوم يُعد حدثاً في قاموس الكراهية السياسية الذي درجت عليه الخرطوم تجاه مسألة الانفصال، بالمقابل في عام 2011م  أصدر الجنوب قرار بعدم السماح للصحف السودانية بالدخول إلى أراضيها، ردود الأفعال هذه رغم محاولتها التدثر بالقاموس السياسي في ممارسة الحقوق إلا أنها ذات أثرٍ سالب في الحركة الأدبية لأنها وجهت قنابل موقوتةً إلى الذاكرة لرفض ابتدائي للمحمولات الثقافية الأخرى ، لن تفلح كل المتاريس السياسية في إيقاف نبض النغم ، فمن يحاول فصمها كأنها ينزع عن النيل قميصه الأزرق .
وزارة الثقافة و الإعلام :
الدور المنوط بوزارة الثقافة و الاعلام  بجنوب  السودان يعتبر دور مهم و حيوي ، فعلى عاتقها تقع في هذا الظرف الحرج مهمة نشر ثقافة السلام الاجتماعي عبر الاقتراب  من المشهد الثقافي ، و دعمه سواء بالرعاية أو توفير دور العرض و المعينات و فرص التدريب و تسهيل حركة المبدعين في كافة المجالات ، ليشكلوا حضوراً كاملاً في الساحة ، المهرجانات الثقافية ، معارض الكتاب ، التفكير في أنشاء مسرح قومي بمواصفات عالمية و غيرها هي ما يجب أن تخطط له الوزارة.
في ظل الحالة الانتقالية فإن مسرح الشارع يجب أن يجد التشجيع من قبلها ، و كذلك الرعاية التي تمكن وصول هذه الرسالة صوتا و صورة لكل مدن جنوب السودان لكي تصل الرسالة إلى المستهدفين ، فكثيرٌ جداً من الأعمال الثقافية سواء كتابة أو مسرحاً أو غيرها استطاعت أن تغير مسارات عجزت عنها السياسة.
بروفايل (مارتن وده ميان):
في زمن صارت فيه الكلمة و الصورة قادرة على إركاع المستحيل و تحويل بوصلته نحو ( ميس الأمان) المدثر  بأزياء حملت في بهاء ألوانها المائية ما يمكن أن يعبر في وضوح و بكل  لغات العالم   عن قدسية  ، السلام ، و الحب و الموسيقى  ، نفض مارتن وده  كفيه التي لم تكن تحملان شيئاً لكنه كعادته أراد التأكد من أنها  كذلك ،  الحرص على ذاك الفعل أصبح أحد طقوسه التي  يوديها بعد خروجه الاحتفالي من حالة العصف الذهني التي تسبق كتاباته التي  يخطط لها بأوتار موسيقية أسكنها ذاكرته فتخرج معمدة محصنة بحسن اختيار المحاور و الموضوع فتندفع امنة الى ركن في الملف الثقافي بصحيفة المشهد  وهي عامره ( بمزاج معبق بالجنزبيل )  تشتهيه القهوة عند انحيازها للكيف.
بينه و الكتابة الإبداعية والتصوير  التزام صارم ، أدرك بأن  الشمعة التي ستظل تضيئ للأجيال القادمة يشعلها دأب  البصيرة التي يعرف أن حدود الشوف هو أن يلتقط حيوية ما يعبره الأخرون  مسرعين فيدفع بها إلى ذاكرة التوثيق محصنا إياها من داء الشفاهية الذي ظل يهدر تاريخاً  تتعمد اللحظة على عدم تكرار مشاهده .
عمدته مهنة التدريس ( سلطاناً) في كرنفالات الاحتفاء بالكلمة الرصينة ، فخرج نحو المشهد الثقافي يحمل في وعيه ما يجعلك تقف كثيراً في الميني حوار مع أستيفن اوشيلا و معهد أورباب  و الرقص الاستعراضي ، مبادرات وضع منهج موحد للموسيقى بشرق إفريقيا ، قبل الإفاقة يستقبلك حواره مع أوتيم موسس و فرقة ميقا أندبندت فتشهق حين تكتشف أن أصول الاسم تعود إلى لغة الأشولي و تعني الحدث الأعظم ، فيخلد  مارتن مع أوتيم و بقية أعضاء الفرقة أن حدثاً مهما  حملته كتب التاريخ في  11 يوليو 2011م .
تجده أحد الجالسين على ناصية الملف الثقافي الذي يتجمع رواده أصحاب الحرفة  في مساء كل ثلاثاء في أحد أركان الروح   يتقنون ما سيحمله الى القراء في صبيحة اليوم التالي من دسامة تجعل الروح تتنفس نقاء الحياه بعيداً عن ما ظل القاء في المحيط من رائحة  البارود.
على مسرح الابداع وطد  مارتن  خطوه أحد ربان مجموعة الابداع  للفنون و المسرح  في مسار النيل ليضع من رحيق عشقه للدراما بصمة  كتلك التي رسمتها حواراته ، حتماً  ستحتفي به الاجيال التي تقرأ التاريخ في حيوية الراهن  ،   يعرف نهر النيل أن بالقرب من مجراه يقف   فناناً و مثقفاً و معلماً  شامخاً  يعرف كيف يجعل   الاحرف تبتسم  حين يداعبها بالكيبورد فهو حصيف في إلباسها  من خميل الابداع حلل كتلك التي  تتباهي بها عروس النيل  .
 جوبا وسلوي الأمسيات المتسربة:
في ختام المقال ألفت الانتباه إلي أن الحركة الثقافية في دولة جنوب السودان تحتاج إلى تضافر الجهود من أجل بلورةٍ طبيعيةٍ للسمة التي يجب أن تُشكل الوجدان الجنوبي الثقافي عبر إعطاء مساحة للحرية لكل التنوع الذي تزخر به شعوب الجنوب والموروث الثقافي لسوداني ما قبل الانفصال بالإضافة إلى ما دفع به التنوع للقادمين الأجانب ومحمولاتهم ، أجدني أميل إلى الختام بمقولةٍ لصامويل  وهو صديق إرتري الجنسية  قضي عشر سنوات في مدينة الديم بالخرطوم و سبع  عامرات مثلها في ضاحية أطلع بره  بمدينة  جوبا كنت قد  استطلعته ضمن آخرين في موضع المقال ( تحتاج الحركة الثقافية بدولة الجنوب إلى إخراجها من ذاكرة الحرب والخوف، فالمدن التي تحول  دار السينما إلى كنيسة تُشير إلى أنها  تنام وإحدى عينيها مفتوحة).
الهوامش :
[1] ميني حوار – افادات استيفن اوفيرا اوشلا في افادات للموقف الثقافي – حاوره مارتن وده – 13 اكتوبر 2016م.
[2]  ميني حوار – افادات اوتيم مؤسس ميقا اندبندت للموقف الثقافي  ، حاوره مارتن وده – 28 سبتمبر2016م.

[3] الملف الثقافي – صحيفة الموقف.


الصورة من محرك البحث قوقل 

ليست هناك تعليقات:

عبدالكريم "أبوسروال" : وداعك علي خاطر الإنتظار (5-5)

أبوذكيه الذي بدا حياته بالنقل البحري لينتهي به الحال تاجرا بالكنغو تتردد سيرته كثيرا، سالته يا عبدالكريم قالوا كنت من السواقين بين الكنغ...