الاثنين، 28 مايو 2018

السودان : وفرص التغيير السياسي (1-3)

في محاولة لقراءة المشهد السياسي السوداني وفرص التغيير أو  التسوية السياسية لأزمة الحكم  ، يقتضي قبل التعرض لذلك قراءة متأنية للحراك السياسي في المحيط الإقليمي و التأثير  العالمي المرتبط بالنفوذ  ، المراقب للأحداث  قد يتفق  علي أن العام العام 2010 م الذي شهد بداية الإحتجاجات بشمال إفريقيا ، تونس علي وجه الخصوص و إمتدادها لتشمل دول أخري من  في ذات المحيط بالإضافة إلي الشرق الاوسط و التي  عرفت إعلاميا و سياسيا  "بالربيع العربي  " و هنا يجدر الا نغفل إمتداد نفوذ الربيع العربي الي إثيوبيا بالقرن الافريقي ، جاءت ردة فعل الحزب الحاكم بالسودان إذاء ذلك متمثلة في محمورين الاول اعلان الحوار الوطني (الوثبة ) في فبراير 2014 للسيطرة علي المشهد داخليا و الاخر الانحناء امام بعض دول المجتمع الدولي عبر  الانتقال في 2015 من معسكر ايران الي معسكر التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
يهدف المقال الذي سينشر في ثلاث حلقات الي تناول التغيرات التي ارتبطت بالربيع العربي و العوامل التي اثرت في مسيرة ذلك سلبا أو ايجاباً دون أغفال لدور المجتمع الدولي المرتبط بصراع المصالح و النفوذ لذا سيخصص المقال الاول لماهية التغيرات التي شهدتها دول شمال و القرن الافريقي والشرق الاوسط ،أما  الثاني موقف المجتمع الدولي من التغيير في المنطقة في ظل صراع المصالح الدولية و الاخير لقراءة فرص التغيير في الواقع السوداني
التطورات السياسية في شمال و القرن الإفريقي و الشرق الأوسط
التطورات السياسية  التي  شهدها إقليم (مينا)  الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلي جانب اثيوبيا  القرن الافريقي ،  مثل العام 2010م بداية إنطلاقتها  والتي عُرفت  علي نطاقٍ واسع، إعلامياُ وشعبياً، بالربيع العربي في إشارة للإحتجاجات التي هدفت  للتغيير السياسي و  التي  إنتظمت دول تونس، مصر ، ليبيا، اليمن، سوريا، البحرين و لاحقاً محاولات الشارع الإثيوبي الإحتجاجية في إمتداد للتجربة  الخطاب الاعلامي عمل علي تسميتها جميعا بالثورات، لكن يظل من الضروي في سياق التحليل السياسي التعرض لكل حالة علي ضوء تعريف الثورة و التمميز بينها و الانتفاضة حيث أجد  أن تعريف موسوعة علم الإجتماع  بأنها للثورة هي الانسب رغم تعدد التعريفات لشموله التعريف فالثورة هي : [1]"التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع ، تلك التغييرات التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وإيديولوجية وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دموية، كما قد تكون سلمية، وتكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية،"،[2] أما تعريف الإنتفاضة  فهي حركة شعبية كبيرة يدفعها الغضب. و في الغالب تكون حركة شعبية موسعة لمقاومة نظام قمعي. أو إحتلال عسكري. ولكنها لا تنجح في عمل تغيير ملموس على عكس معني كلمة الثورة".  مناقشة ذلك يؤدي للوصول إلي توصيفٍ أكثر دقة يتسق ومآلات الأحداث الراهنة.
الحالة التونسية :  بالنظر اليها نجدها الأقرب للإلتصاق بمفهوم الثورة  لأنها إستطاعت في اَخر المطاف أن تحدث تغييراً بجهودٍ وطنيةٍ أدت إلى تحقيق إستقرار سياسي ووضع بذرةٍ لملامح الدولة المدنية، تجدر الإشارة إلي أنها  كشفت عن تحولات إيجابية إستطاع فيها الشارع التونسي والأحزاب السياسية إدارة العملية السياسية في الفترة الإنتقالية والإنتباه إلي أن التسوية السياسية تتطلب جهداً سياسياً يبعدها عن السيطرة التي تكرس لايدلوجية الحزب الواحد  التي حاول فيها الاسلاميين السيطرة علي مفاصل السلطة  خطط لها لكي تمضي نحو تطبيق نموذج الدولة الدينية.
كما نحجت التجربة التوونسية رغم التحديات في الخروج من نفق  سوء إدارة الأزمات التي كانت يمكن أن تقود إلي إنهيار الدولة و لا سيما في توقيت مرحلة الفترة الانتقالية أو التحول بل تطور الأمر إلي بداية تطبيق لتجربة العدالة الإنتقالية التي تهدف إلي إرساء قواعد العدالة ، و اوكلت المهمة  لجسم لجسم مستقل تكون  15 عضوا  [3]، بالطبع صدر التفويض القانوني للهيئة (قانون) بينما ظلت المهمة الاساسية لها النظر في الإنتهاكات لحالة حقوق الإنسان التي تمت في الفترة من1955 الي 2013  [4]
 في الحالة المصرية  حدث تراجع سياسي بعد إسقاط نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك مما دفع بالحالة من كونها ثورة إلي إنتفاضة لسبب بسيط  ان ما حدث أنعكس في تغيير مؤقت دفع بالشعب المصري الي صنايق الانتخابات كمرحلة اولية في التغيير لكن خصوصية الحالة المصرية التي رزحت تحت وطاة الدكتاوريات لعقود طويلة مع الاعتبار للغياب الكبير لوجود حيوي لأحزاب المعارضة السياسية  ، الأمر الذي جعل الدرب سالكاً لتنظيم الأخوان المسلمين المصريين للسيطرة علي حصاد الإنتفاضة المصرية ووضعها في قالب أضيق مساحة وأقصر قامة من نضال الشعب المصري، عوامل اَخري ساهمت في ذلك أنه في عهد مبارك تمدد الأخوان المسلمين في الشارع المصري بعد القهر الممنهج الذي مورس ضدهم  فعملوا علي تنفيذ نسخة الدولة الدينية في الشارع المصري عبر إستخدام مفهوم (تديين الشارع) فنحجوا في وصم الشارع بالأسلمة الشكلية عبر الحجاب السياسي والتدين الشكلي، الأمر الذي نتج عنه تنصيب الرئيس السابق محمد مرسي عبر صناديق الإقتراع رئيساً لمصر، ليثور سؤال عن ماهية التغيير الذي رمت إليه الإرادة الشعبية المصرية؟  ما حدث هو  إستبدال لنظام ديكتاتوري بآخر يستند علي فلسفة الإسلام السياسي حيث إلغاء الآخر والحاكمية الإلهية الـأمر الذي جعل الحالة تُطابق الإنتفاضة ولا سيما أن من ضمن خصائص الإنتفاضة حالة الفوضي والإنتقام كما حدث مع أقسام الشرطة والاعتداء علي المحتجين سلمياً بميدان التحرير، إزاء ذلك المشهد سيطرت القوات المسلحة المصرية مرة أخري علي السلطة عبر الرئيس عبدالفتاح السيسي فأصبح الحال يُشير إلي أن الإنتفاضة  المصرية لم تُمهل  لتبلغ فطام الثورة   .
النموذج الليبي عبر هو الاخر عن حالة الانتفاضة حيث  خضع الشعب الليبي لنظام ديكتاتوري فصم عُري العلاقة بين مفاهيم المدنية والديمقراطية والشارع، بل  في سبيل السيطرة السياسية شجع الإنتماء العشائري الذي جاء خصماً على الهوية الوطنية ،سياسياً  الإشتراكية التي  إختزلها القذافي في الحصول علي الإحتياجات الأساسية عدا الحق في الممارسة السياسية سارعت بدفع الموارد إلي صلب التنافس بعد إسقاط نظام القذافي، فتراكمت الأسباب التي تقود إلي إنهيار متسارع للدولة  بذلك، لأن التنظير للإستقرار السياسي  لم يستصحب الحوجة لفترة إنتقالية يتم فيها إعادة الإعتبار للشعب الليبي وجبر الضرر وغيرها من القضايا، الأمر الذي جعلها مسرحاً للفوضي حيث انتقلت إليها أنشطة التنظيمات الدينية المتطرفة كمسرح ثاني بعد سوريا والعراق، أضف إلي ذلك شكلت الحالة الليبية نموذجاً لإقتصاد الحرب حيث إستغلال الموارد بطرقٍ مختلفة من قبل المجموعات المختلفة المسيطرة علي المناطق ذات الموارد و تحويلها إلي معبر للمهاجرين غير الشرعيين إلي اروبا في ظاهرةٍ لإنتشار الإتجار في اقتصاد الهجرة غير الشرعية الذي يتضمن تحت مظلته تجارة الأعضاء البشرية وحالات إنتهاكات لحالة حقوق الإنسان مثل الإعتقال من أجل طلب الفدية وظاهرة التعذيب.
أما  التجربة اليمينة  فهنالك عوامل خارجية تمثلت في تدخل المجتمع الدولي عبر التدخل لفرض نسخة تسوية سياسية توافقية في افتراض أن ذلك قد يجانب ما حدث في التجربة الليبية  ما شكل أس المشكلة هو ان التدخل الدولي قطع الطريق علي الانتفاضة اليمنية لتسير سيرا طبيعا وفقا لحركة نضالات الشعوب وادواتها التي تبدع دائما في خلق اللحظة التاريخية للتغير ، هذا التدخل شكل وصاية علي الارادة الشعبية التي كان يمكن للتعبير السلمي ان يحدث نقلة ايجابية في مجتمع  ذو تركيبة عشائرية الانتماء ، فالملاحظ أن في الثورة اليمنية رغم انتشار السلاخ خارج سيطرة الدولة الا أن الاحتجاجات  شكل تمرينا ديمقراطيا  لم تدلف الي قاموسه استحدام السلاح بل جاء الامر عندما بدأت الوصاية الدولية بالتدخل لفرض التسوية التي غاب عنها ان مثل الدول الغنية بالموارد و تحكمها انماط علاقات عشائرية يكون الواجب الاول هو الدفع نحو تعزيز الهوية الوطنية فإنحسرت الإحتجاجات اليمينة إلي النأي عن مفهوم الثورة و الإنتفاضة لترزح إلي تفكيك للدولة، و تحطيم عسكري لإحدي أقدم الحضارات الإنسانية في المنطقة،
مع ملامح فشل التجربة اليمنية سعي المجتمع الدولي للتشكيك في جدوي الإحتياجات  في سوريا فتكاثرت الإشارات التي حاولت تديين الحالة (السني و الشيعي ) قبل أن تتضح معالم الصراع بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية المرتبطة بالنفوذ والمصالح في الشرق الأوسط الأمر الذي جعل من سوريا ساحةً  للتنافس المحموم والمكتوم في باديء الأمر قبل إنفراط العقد نتيجة للتراخي وإطالة أمد الأزمة الذي وقف المجتمع الدولي متفرجاً عليها،  قاد ذلك لإتساع مساحة الصراع وتعدد مراكز التحالفات داخل الواقع السوري المعارض لنظام الأسد فوجدت الجماعات الإسلامية فرصة للولوج إلي المشهد فغرقت الإنتفاضة السورية وحرقت مراكبها، فإنحرف شعار الإحتجاج من التغيير السياسي إلي البحث عن تسوية تحد من اللجوء. نحو الدول الاروبية ،
تجربة البحرين إقتفت محاولات نسخ التحربة المصرية بذات نسقها دون التفكير في البصمة التي تعمل علي مقاربة الإحتجاجات بواقع البحرين، كما أن قيادة تلك الإحتجاجات من قبل ناشطين حقوقين ومدنيين من الجيل الأول والثاني من البحرينين غابت معه التجربة السياسية التي كانت هي الضمانة التي تُعبر عن سقف التغيير السياسي، القمع القانوني الذي إتخذته البحرين شكل نقطةً فارقة في الإنتهاك حيث إستخدمت القانون لتجريم الإحتجاجات إلي جانب أنها استخدمت الدين في الترويج لما حدث كصراع ( شيعي – سني ).
انتقال الاحتجاجات الي القرن الافريقي ولا سيما اثيوبيا شكلا امتدادا لتجارب الاحتجات المرتبطة بالربيع العربي ، بالنظر الي الحالة الاثيوبية نجد ان هنالك عوامل ساعدت علي اندلاع الاحتجاجات هي حالة القهر السياسي بما في ذلك الاعتقالات الواسعة النظاق التي استخدم فيها قانون مكافحة الارهاب للحد من الحريات الي جانب أن الدستور الاثيوبي يعتبر الثاني افريقيا بعد دستور جنوب افريقيا الذي اقر ( تقرير المصير ) لكن الطبيعة الاثنية للاحتجاجات و اقترانها بمطالب تقرير المصير قلل من زخمها و دعمها دوليا هذا الي جانب مسارعة الحكومة الاثيوبية الي اتخاذ هطوات قللت من الاحتقان باطلاق سراح المعتقليين السياسين و تغير في منصب رئيس الوزراء بالاضافة الي مشاريع البني التحيتة المرتبطة بشبكات المواصلات و مشروع سد النهضة ، ليمكن القول بان السلطة الحاكمة قد عملت علي تغيير في المسرح السياسي بتغيرات عززت من سيطرة اقتصادية للسلطة الحاكمة




[1]  شعبان الطاهر الأسود ، علم الاجتماع السياسي قضايا العنف السياسي والثورة . القاهرة : الدار المصرية اللبنانية .2003 صفحة 47 .
[2] - محمد المحمدي ، تورة ام انتفاضة ام حركات اخري ، مدونة المحمدي 9 فبراير 2012
[3]  الموقع الالكرتوني  لهيئة الحقيقة والكرامة .
[4]  الموقع الالكرتوني لهيئة الحقيقة والكرامة التونسية .
مصدر الضوؤة محرك البحث قوقل 

الخميس، 24 مايو 2018

(عمر المصري ) و (عليك واحد ) بين نفق الرقابة و حرية التعبير


بقلم : محمد بدوي
"1"
 في 16 مايو 2018 إستدعت الخارجية السودانية السفير المصري بالخرطوم عقب بث مسلسل  علي بعض القنوات المصرية حمل اسم ( عمر المصري ) ، وفقا للبيان ان المسلسل  تدور احداثه عن علاقة بعض المصريين بالمقيمين بالخرطوم بالارهاب ، و انتهي البيان بطلبللخارجية السودانية  " من السلطات المصرية المعنية المبادرة  لاتخاذ قرار مناسب يضع حداً أمام محاولات البعض العبث بمصالح ومكتسبات البلدين الشقيقين." ، في تقديري ما اقدمت عليه وزارة الخارجية السودانية يمثل منحي خطير في مجال حربة التعبير و بل يضع سياجا سياسيا حول الاعمال الفنية فلغة البيان جانبها التوفيق بل  حملت اشارات الي المفاضلة بين العلاقة السياسية علي حساب حرية التعبير و تغييب للادوات المناسبة التي تتناول مثل هذه الاعمال بالنقد  .
"2"
اظهرت لغة البيان جزعاً من حلقات  المسلسل الذي  يفترض فيه في الاساس ان يتاح له قبل التقييم النهائي فرصة لاكتماله هل شاهدت الخارجية  كل  حلقات المسلسل ! هل منحت  فرصة لرؤية معالجة المولف و المخرج  للصورة الكلية  ؟ كل هذه الاسئلة تدور و السياق الخيالي هو محور القراءة ، لكن بيان الخارجية سارع  الي الربط بين الاحداث والواقع وهو امر غابت عنه الفطنة والحنكة الدبلوماسية بان انعكست في الترويج للمسلسل لانه ببساطة التحكم والسيطرة علي البث في الفضاء الرقمي لا يمكن للقرارات السياسية ان تتحكم فيها ، فالبنظر الي  التجارب في هذا المجال من حذف للمشاهد او (قص ) ثبت عدم فعاليته  لانه بالامكان مشاهدة تلك الاعمال كما شاء لها العمل الفني ان تخرج للهواء الطلق لان حرية التعبير وضعت اطار للحقوق والواجبات تخضع الاعمال الفنية للنقد المختص و تقر بحقوق المتضرر ان وجدت عبر  مسار قانوني .
"3"
في حادثة اخري في 22 مايو2018 خاطب الناطق الرسمي لقوات الشرطة السودانية الفريق شرطة حقوقي عمر المختار محمد حاج النور قناه سودانية 24 بايقاف بث برنامج رمضاني (عليك واحد) جاء  علي نسق الكاميرا الخفية بحجة ان المشاهد فيه تسيء للشرطة ، قبل ان تيم الوصول الي تسوية و استمرار البرنامج ، وهنا دلفت الشرطة الي العمل الفني من بوابة الرقابة علي  حرية التعبير و التحكم في الاعمال الفنية دون معرفة ماهي المعايير التي إستندت  عليها تلك الرقابة ، في تقديري ان البرنامج قد ادي دوره تماما و لفت الي قضية هامة تجاوزت الفعل الدرامي " المجاني" الي التنبيه الي علاقة الشرطة بالمواطن ! و هو امر تستحق عليه القناه كل الشكر لانه ظل يخضع لحصانة ضمن سياق الخطوط الحمراء التي تكبل حرية التعبير .
"4"
عرض البرنامج لموافقة الشرطة قبل بثه يفقده  حيويته الفنية و يضعه امام (عجلات  قطار ) تحديد انساق العمل الفني و فقا لما يتسق و مزاج جهة محددة  و ما تجدر الاشارة  اليه الا ان الامر سيمثل سابقة لكل الاجهزة ذات النفوذ الخكومي للتضيق علي حرية التعبير ، فالاجدر ان تتخذ الشرطة الامر كفرصة لمعرفة صدي او انعكاس علاقتها بالواقع من اجل التطوير المهني بل كان يمكن ان تستخدم حلقات البرنامج ضمن السياق التعليمي بكليات الشرطة و استخدامها كادوات تدريب  .
"5"
كلا من  (مسلسل عمر المصري ) ، برنامج (   عليك واحد    ) تعاملت معها السلطات  بطريقة اوحت فيه بملامستها لواقع محصن بالرقابة ، اخيراً اذا استمر هذا النهج   علي ما هو عليه من تصدي الاجهزة الحكومية المختلفة للحد من حرية التعبير و التحكم في الاعمال الفنية فهي تعني تراجع اجباري لتطوير الاعمال الفنية  فالفرق شاسع بين الرقابة و  ادواتها و مشروعيتها وبين  الادوات التي التي تناول الاعمال الفنية بالنقد المختص  ، وقبل ذلك فالمشاهد هو صاحب حق  لا يمكن ان تمثله سلطة سياسية او تفرض عليه وصاية في تحديد ما يجدر ان يكون عليه العمل الفني ليطابق مزاجه فالبون شاسع بين ( ضمير الجهور و  ما يتسق و النظام السياسي ) .

مصدر الصورة محرك البحث قوقل

الثلاثاء، 15 مايو 2018

السودان : المشاركة في حرب اليمن و إنتهاك السيادة


"1"
تصاعد الصراع داخل أروقة الحزب الحاكم حول ترشح الرئيس عمر البشير لإنتخابات الرئاسة السودانية 2020 مما افرز تطورات عديدة علي مستويات مختلفة منها تصاعد الازمة الاقتصادية . في خضم ذلك تم اقحام ملف المشاركة في حرب اليمن رغم انه بدأ منذ 2015 ، حيث شهد ابريل الجاري تصريحات لبعض نواب البرلمان عبروا فيه عن اعتراضات حول مشاركة قوات سودانية من " الدعم السريع " تمحورت التصريحات في نقطتين الأولي وصفت المشاركة بعدم المشروعية لعدم مصادقة البرلمان عليها ، النقطة الثانية ذهبت إلي مقارنة الاثر النوعي للمشاركة "كقوات برية " مقارنة بأدوار دول اخري ضمن الحلف كالمغرب ، والاردن ، ومصر(1) و دورها المحدود الذي إقتصر في الدفع بقوات جوية ، الأمر الذي جعل القوات السودانية في مواجهة مباشرة علي الأرض، في تقديري ان ذلك الي جانب اسباب اخري منها (سلمية ) طبيعة العلاقة التاريخية بين السودان واليمن ، هي التي دفعت محمد علي الحوثي رئيس اللجنة الثورية لانصار الله يطلق تغريدة علي توتير في 4 أغسطس 2017 متوعدا بإبادة القوات السودانية التي أسماها بالدعم السريع (2) 

"2"
 كرد فعل مناهض لاحتجاجات بعض نواب البرلمان حول المشاركة السودانية في حرب اليمن صدرت ثلاثة تصريحات داعمة يمكن رصدها علي التوالي ، في 13 ابريل 2018 صرح قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دلقو " حميدتي" مؤكداً استمرار المشاركة مشيراً الي أن الامر يمثل تنفيذ لاوامر رئيس الجمهورية (3)، لاحقاً في 2 مايو 2018 و أمام البرلمان صرح الفريق أول علي أحمد سالم وزير الدولة بالدفاع قائلا "هذه الأيام نعكف على دراسة المشاركة في اليمن من جوانب مختلفة، وتقييمها للخروج بنتائج، وبعدها سنقرر الخطوة التالية”.(4) مضيفا " في النهاية سنقرر ما هو في مصلحة بلادنا وأمنها واستقرارها، وفي نفس الوقت الوفاء بالالتزامات الإقليمية والدولية"(5) في تقديري أن تصريح "سالم " كشف عن "حنكة سياسية" تفادي بها المواجهة مع النواب المعارضين للماركة (بغض النظر عن دوافعهم ) وقبل صدور النتائج التي أعلن عنها "سالم "صدر تصريح من الخارجية السودانية علي لسان القنصل بسفارة السودان بالمملكة العربية السعودية أسامة حسن سلمان في 12 مايو2018 معززاً إستمرار المشاركة حيث قال " أن انسحاب القوات السودانية من اليمن امر روجت له وسائل الاعلام" مضيفا أن "الرئيس السوداني أكد مشاركة القوات السودانية في التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن

"3" 
في تقديري أن توقيت كشف بعض نواب البرلمان عن مناهضتهم للمشاركة لا يمكن فصلها عن ما يدور في الساحة السياسية من صراعات داخل الحزب الحاكم و أجنحة الأسلاميين السودانيين الاخري المرتبطة بالصراع حول من سيقف علي سده الحكم منهم في 2020 ، أليس من مثار الدهشة التزام اولئك النواب (الصمت الحزبي) منذ العام 2015 ؟ الامر الذي يشير الي ان مضابط الجلسات قد خلت من اعتراض عدم مشروعية المشاركة أو احصائيات رسمية عن عدد القتلي ومصير الجرحي! بل لم يتم التفكير في استدعاء وزير الخارجية والمالية لكشف طبيعة العقد بين الحكومة السودانية و التحالف العربي ؟ الاجابة لا تحتاج الي كثير تفكير ولن اجملها في ان البرلمان ليس سوي احدي حلقات سيطرة الحزب الحاكم علي السلطة لكن في تقديري ان صمت البرلمان مواصلة للصمت حيال طبيعة القوات و سجلها المرتبط بالانتهاكات بدا بالصراع في دارفور ، النيل الازرق ، جنوب كردفان و اخيراً سبتمبر 2013..

 "4" الوقت الذي اثار فيه بعض النواب مسالة عدم مشروعية المشاركة قد قد مضي شهران علي انتهاك للسيادة حين أشرف ضباط سعوديون علي اجراء معاينات بمدينة نيالا بولاية جنوب دارفور في فبراير 2018 للراغبين في المشاركة ، لم يكن الامر سراً فحتي مقر اقامتهم بفندق مورال بمدينة نيالا حملته وسائل الاعلام فوفقا لصحيفة دارفور 24 الالكترونية تمثلدور الضباط في الاشراف علي المعاينات التي ركزت علي الحالة البدنية و الحصول علي جوازات سفر سارية ،قبل أن يتم ترحيلهم عبر مطار نيالا مباشرة الي المملكة العربية السعودية (جرى تسليم المئات من المجندين مبلغ مقدم قدره (830) الف جنيه (830 مليون بالقديم) كدفعة اولى قبل سفرهم للسعودية حيث يجري تدريبهم عسكريا هناك.(9) 

"5"
 أين كان نواب البرلمان حين استقبلت مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور ضباط أماراتيون (10) ذات فبراير 2018 أشرفوا علي اجراء المعاينات للراغبين للمشاركة في القتال حيث تم وضع شرط السن بما لا يتجاوز ال(30) عاماً ، وعقد مدته (5) سنوات ،كما تم منح مبلغ مالي كمقدم بلغ قيمته (1000000 )جنيه سوداني ، ليغادر من وقع عليهم الاختيار في ظل غياب احصائيات رسمية "عبر مطار صبيرة بالجنينة للتدريب بالامارات قبل الالتحاق باليمن " (11)

 "6" 
يستمر مسلسل الصمت او الغياب الاختياري لنواب البرلمان عن مشهد عودة 3000 مقاتل شاركوا في حرب اليمن في فبراير 2018 بعد أنتهاء مدة تعاقدهم هبطوا عبر مطار نيالا ، بولاية جنوب دارفور ! لنمضي أكثر بانه في ذات الشهر غادرت مجموعة اخري عبر مطار نيالا من قوات الدعم السريع للمشاركة في القتال بعد تلقيهم تدريباً عسكريا في معسكرات بغرب ووسط دارفور."(12)  

"7 "
ختاما التحولات المرتبطة بمشاركة القوات السودانية في اليمن ليست سوي امتداد لحلقات التفريط في السيادة الوطنية كنتاج مباشر لسياسة التمكين الحزبي للاسلاميين السودانيين في علاقتهم بالسلطة ، في تقديري ان المراكز البحثية المهتمة بالعلوم السياسية لن تجد نموذجا حيويا و معاصرا يلخص علاقة فكرة ذوبان الدولة و الاسلام السياسي أفضل مما حدث في يوليو 2017 حيث غادر (عنوه) الفريق و السفير و مدير مكاتب رئيس الجمهورية طه عثمان الحسن مطار الخرطوم بهوية ( جواز سفر سعودي ) ، بل المفاجاة أن أقالته تلتها ظهوره في محفل اقليمي ( القمة الافريقية ) علي رأس الوفد السعودي بمنصب رفيع ( مستشار الشئؤن الافريقية ) ، الامر الذي يلخص أن تطورات مشاركة قوات سودانية و تجنيد سودانيين للقتال في اليمن تمثل نموذج لامكانية ادارة شئون الدولة من الخارج دون كوابح ، فما يحدث لا يخرج من سياق (“الطائرات بدون إضاءة.. والهجوم تم ليلًا “بعد العشا”.. وكانت الأنوار “طافية(13)

. ------------------------------------ 
المصادر 
 (1) قناه العربي - السودان قد يقرر الإنسحاب من التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن ... هل يفعلها البشير ، قناه اليوتيوب – تاريخ النشر 2 مايو 2018
 (2)أنصارالله يتوعدون قوات "الدعم السريع" السودانية بالإبادة – قناه العالم - ٠٤ أغسطس ٢٠١٧ 
(3)قائد قوات الدعم السودانية يرد على مطالب سحب القوات من اليمن ، انباء يمينة - 13 ابريل 2018
 (4)الدفاع السودانية تحدد موقفها امام البرلمان من مشاركة قواتها في العدوان على اليمن – يمني برس – 2 مايو 2018 
 (5)المصدر السابق
 (6)دبلوماسي ينفي ما راج عن اعتزام الخرطوم سحب قواتها من اليمن – صحيفة سودان تربيون – 12 مايو 2018
 (7)المصدر السابق
 (8)السعودية والامارات تلجآن لقوات سودانية لحماية أراضيهما من هجمات الحوثيين- صحيفة دارفور 24 – 22 فبراير 2018 (9)“الجنينة” تشهد نقل المئات من جنود الدعم السريع إلى الامارات – صحيفة دارفور 24 – 30 ابريل 2018
 (10)المصدر السابق
 (11)المصدر السابق
 (12)المصدر السابق 
 (13)وزير الدفاع السوداني : الطائرة الإسرائيلية فاجأتنا لأن أنوارها كانت«مطفأة»والجو ظلام ، تصريح لوزير الدفاع السوداني في 2 نوفمبر 2012 -صحيفة الوئام الالكترونية - تعليقا علي ضربة اسرائلية داخل الحدود السودانية
 مصدر الصورة موقع (الموقع بوست )

الأحد، 13 مايو 2018

دول ما بعد الربيع العربي وتحديات سيادة حكم حقوق الانسان، (ليبيا نموذجاً)

(1)إستهلال تري لو قدر للعقيد معمر القذافي أن يدرك بأن نهايته ستكون بتلك الطريقة هل كان سيستمربذات النهج ؟ غياب حكم القانون يقف موازياً لحالة العنف والتطرف و الفوضى، عدم الاهتمام بدروس التاريخ السياسية و الاجتماعية و عندما حدثت التحولات في الواقع الليبي وقف ذلك التاريخ الطويل في العنف عائقاً أمام الاستقرار و التسوية السياسية والإنصاف و جبر الضرر. علي ذات نسق الحياة الصحراوية التي تتسم بالسرعة والحركة الدؤوبة والهجوم المباغت انطبع ذلك في ملامح التغيير، فتسارعت الأحداث بعد سقوط حكم العقيد القذافي ، ذادت حدة الاحداث وتعددت مراكز الصراع كلما اتسع نطاق تضارب المصالح، يحنها برزت تداعيات غياب فكرة الدولة في أذهان الليبيين بسبب سيادة الانتماء العشائري والفصل الذي فرضه القذافي بين الشارع الليبي و مفهوم المدنية ربما كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر الاستقرار بحجبها للرؤية العميقة لمفاهيم المواطنة والحكم الديمقراطي . (2)تمهيد الاحتجاجات التي عرفت إعلاميا و شعبياً علي نطاق واسع بثورات الربيع العربي بدأت مسيرتها من تونس في العام 2010 و امتدت لتنتظم بعض دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط فهي من الأحداث المهمة في تاريخ المنطقة في العقود الأربعة المنصرمة بالرغم من ماَلات الحال الذي أنعكس في حالة الفوضى الواسعة النطاق و عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول و التراجع الذي حدث بعض هذه التجارب فاق ما سبق من قهر، وفي تقديري كان هذا نتاج لعدة اسباب منها طبيعة لحالة القهر التي رزحت تحتها بعض تلك الدول لعقود مما أعاق تشكل وعي يتسق وقيم العدالة، الحرية و المساواة، كذلك عطل وحجم من توطين ثقافة الديمقراطية و الإلمام بماهية التداول السلمي للسلطة . هذا إلى جانب غياب حيوية المقاومة السياسية في تلك الدول خلال فترات الديكتاتوريات التي استطاعت ان تفصم عري العلاقة بين المعارضة والشارع، إلى جانب الدور الذي لعبه بعض اعضاء المجتمع الدولي الغربي مثل امريكا ومحاولاتها في دعم وجود الاسلاميين للوصول الي سده الحكم لأغراض وفقا لتقديرات تقليل خطورتهم المتطرفة (3)تأثير نظرية الكتاب الأخضر علي الهوية الحالة الليبية تعتبر ذات خصوصية نتيجة لنمط الحكم الذي ساد أبان فترة دكتاتورية العقيد معمر القذافي و الذي أتسم بالتنظير له فكرياً بنظرية الكتاب الأخضر الذي وصم بالاشتراكية وهو التفاف بنسخة شائهه وفطيرة عن العدالة الاجتماعية التي اختزلت في تقديم الخدمات خصماً من نصيب الفرد من الدخل القومي لإخماد التفكير الحر و الخلاق في حزم الحقوق السياسية الثقافية ، الاقتصادية و الاجتماعية ، اعتمدت ديكتاتورية العقيد القذافي علي الولاء العشائري للسيطرة علي مقاليد السلطة ، تلك السياسات عطلت مسار تكوين الهوية الوطنية لليبيين، سياسة الرئيس القذافي بدعم البان أفريكانزم و التعارض بين ذلك وقطاعات من الشعب الليبي التي تري أنها أقرب للتيار العروبي مما شكل صراعا مكتوما من جانب الشعب انعكس في حال هوية الدولة السياسية و الشعب . الراهن المتخبط سياسياً في الجماهيرية الليبية يعكس ذات التحديات في مجال حالة حقوق الأنسان للارتباط العضوي بين الحالتين في كونهما لا يزالان يتلاطمان دون بوصلة ومرد ذلك غياب الفلسفة المعرفية التي فرضتها دكتاتورية القذافي التي أحكمت قبضتها ونمطت الواقع للسير عبر معابر لا تمر إحداثياتها بتلك القواميس. التحديات الاساسية التي تواجه حالة حقوق الإنسان وتحسينها يمكن تناولاها في النقاط التالية دون الخوض في تفاصيل دقيقة بغرض تملس الإجابة على كيفية النفاذ إلى التعامل معها وادارتها بشكل يعكس واقعاً أفضل ينصب في تقويم المستقبل. (4)الهوية الوطنية: تعتبر الهوية الوطنية من المطلوبات الأساسية التي يجب توفرها في الواقع و ذلك لارتباطها ب مفاهيم اساسية في مباديء حقوق الأنسان حيث تمثل التربة الخصبة لنمو وتطور مفاهيم وقيم العدالة الاجتماعية و الحقوق و قبول الاًخر ، كما اشرنا في المقدمة أن الخطة السياسية لفترة حكم القذافي اقتصرت دور الدولة في الخدمات المشار اليه، وركزت علي أن يظل المقابل هو أحكام الولاء السياسي للنظام الحاكم عبر وسطاء عشائريين مما جعل دور الهوية الوطنية تمر عبر بوابات أثنية ترتبط مصالحها أكثر من ارتباطها القومي سياسات الدولة التي إرتبطت بشخصية القذافي الذي تلبيسته حالة تضخم الشخصية كنتيجة مباشرة لمرحلة دكتاتورية الفرد التي وصل إليها بحكم طول الفترة التي قضاها في الحكم و انعدمت فيها المقاومة السياسية سوي تلك التي أستطاع عزلها في المنافي فلم يكن لها صدي كبير في الواقع . (5)ثقافة الحقوق القبضة الديكتاتورية التي لم يكن من مجال لتكوين الأحزاب فيها شكلت حاجزاً من التعايش مع مفاهيم التعددية و الديمقراطية وقد فاقم من ذلك أن حالة دول الجوار مصر وتونس لم تكن أفضل من ليبيا فاصبح محيط الحال لا يمكن أن تلمح فيه ما يدفع نحو ذلك فتكاثرت أجيال تجد ذاتها في التشكيلات العشائرية ذات ثقافة التوريث فتعاظمت من تدهور الحال و انعدام الرؤية نحو تلك الحقوق أو المفاهيم. النظرية السياسية للكتاب الاخضر امتدت لتفقر مناهج التعليم و بالتالي بنيات الوعي المرتبطة بالمعرفة العلمية و البحث المستند علي الحقائق العلمية و التي يرتفع سقفها الي اعتماد العقل و الحرية كسقف لذلك، بجانب غياب البنية المدنية للدولة التي استبدلت بالجمعيات الاشتراكية الي غياب ضلع أساسي في علاقة المجتمعات المدنية التي يظل فيها المجتمع المدني ضلع ثالث في بنية الدولة (كدولة مدنية ) لم يستثني من ذلك القطاع الرياضي الذي لم يكن أهلياً بمعناه الواسع بقدر ما كان يخضع كأحد الإدارات الحكومية التي تشرف عليها الدولة بذات الصيغة السياسية . غياب بنية المجتمع المدني ظل الكتاب الاخضر و سياساته و التنميط العشاري حاجزاً أمام الانخراط في الأنشطة الإبداعية مثل المسرح و العمل الثقافي مما قلل من قيمة دور الثقافة و عزز من أغفال حيوية الحياة الاجتماعية ، الثقافية والاجتماعية لقطاعات الشعب فلم يتم الاهتمام بتدوين التاريخ و التجارب و هو محك الأزمة الراهنة حيث أن الصراع السياسي لم يجد من مرجعيات يستند عليها كانت قد تقلل من حدة الصراع في الاتفاق إلي صيغة سلمية لإدارة الدولة في المرحلة الانتقالية الراهنة . (6)الفكر الديني يظل التحدي الأكبر الذي أنتجته هذه الظروف هو ايجاد الفكر الديني الإسلامي مرتعا ومساحة للتغلغل نتيجة للتنظيم العالي للإسلامين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط من جانب و لسبب اخر هو فراغ المسرح الوطني من فكر وتجربة و ثقافة ديمقراطية، مما ساعد في سرعة أنتشارها لأنها انتهجت ذات التكتيك الذي ظل ينفذ الي السيطرة عبر البوابة العشائرية . خطر هذه الممارسة على مستقبل الجماهيرية كدولة وعلي تأسيس بنية مدنية يظل التحدي الأكبر الذي لا يمكن إيقافه بالإصلاحات السياسية فقط لكن بتغلغل المجتمع المدني ولعب دوره الحقيقي والفعال وهو دور كبير يحتاج إلى نظرة وتخطيط استراتيجيين. (7)دور المجتمع المدني لتعزيز دور منظمات حقوق الانسان في ليبيا وربطها بالدور المنوط بها يجب أولا أن يكون هنالك تخطيط استراتيجي علي كافة المستويات التي يفرض عليها الواقع أن تساهم في وضع لبنات لحركة مدنية حقوقية ذات فلسفة واضحة عبر الإصلاح المؤسسي و الفلسفي لبنية القوانين و مؤسسات أنفاذ القانون والمساهمة في تشجيع المؤسسات المدنية الأخرى المرتبطة بحرية التعبير والتنظيم أن تنحو نحو تفويض وطني يساعد في تفكيك البنية العشارية والتفكير في المؤسسات ذات الأهمية القصوى وقفاً لمتطلبات الراهن والمرتبطة بالعدالة الانتقالية . هذه الدور تسنده تجارب دول أخري عانت من ذات نمط الصراعات لكنها في طريق قد يفضي إلي استقرار والتطلع نحو مستقبل أفضل والتي تأسست فلسفتها في العمل عبر شركات مع المجتمعات المحلية والمنظمات والبعثات الدولية العاملة بالدولة أو في محيطها و الجهد الخلاق في الاستفادة من الفرص و الموارد ,استغلالها الأمثل وقفاً لأولويات الاقتراب من الواقع علي سبيل المثال التأسيسي لإذاعات وقنوات تساهم في نشر ثقافة السلام الاجتماعي و بث الوعي تجاهه القضايا كوسيلة للمشاركة و تتعدد الأمثلة . (8)تجربة المجتمع المدني والتحديات أخيراً يظل التحدي الأكبر هو أن تعمل المؤسسات التي تصدت لهذا العمل في الاقتراب من الواقع وفهمه والاهتمام بالحوث و التوثيق و التحلي بالمثابرة في الدفع نحو خطط استراتيجية بعيدة المدي يشرك فيها فاعلين من طاعات مختلفة مع الإدراك بأن الطريق نحو الانجاز يتطلب جهدا خلاقاً --------------------------------------- نشر المقال بتاريخ 19 مايو 2017 مصدر الصورة محرك البحث قوقل - صورة لجلسة الاستعراض الدوري لحالة حقوق الانسان بليبيا - مجلس حقوق الانسان -بجنيف - 2015

السبت، 12 مايو 2018

محاكمة نوره حسين : العدالة و إغتصاب الزوجة




بقلم : محمد بدوي
 (1)
شكل العام 1983م محطة هامة في تراجع تطور القوانيين السودانية بإعلان قوانيين الشريعة الإسلامية أو ما عرف علي نطاق واسع ب( بقوانيين سبتمبر ) التي أعلن بموجبها تطبيق جرائم الحدود التي علمت علي التوسيع في النص علي العقوبات الجسدية و السالبة للحرية ، الدوافع السياسية لتلك القوانيين تكشف دون عناء في إعلان الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري إماماً للمسلمين ، مهد ذلك للاحقه قوانيين 1991 أن تسير  علي خطي سابقه بل تمت صياغة قوانيين و تطبيقها بطرق إيجازية  إقترنت الممارسة فيها بالمخالفة لمعايير المحاكمة العادلة  نسبة لدوافع سياسية للمرة التانية مثل "قوانين النظام العام " ، حملت إتفاقية السلام الشامل بين الخرطوم و الحركة الشعبية لتحرير السودان 2005م فرصة تاريخية حيث نصت  الفقرة (3-1-1) [1]"يجب أن تتوافق جميع القوانين مع الدستور القومى" لكن عدم التنفيذ الكامل للإتفاقية لم يتم تعديل القوانيين التي  ظلت فلسفتها تتسق مع قوانيين سبتمبر دستور التوالي 1998 ( الحاضنة الدستورية لفلسفة الإسلام السياسي ) ،
(2)
تطور القوانيين ياتي وفقاً لما يطرأ من تطور في حياه المجتمعات بغرض الاستجابة لتنظيمها ، حفظ أمنها ,خصوصيتها وغيرها من الحقوق  لكن في الحالة السودانية تراجع الامر علي عده مستويات  لاسباب كثيرة علي سبيل المثال لا الحصر البداء  بالفصل التعسفي للعاملين في الحقل القانوني من غير الموالين للحزب الحاكم  مما أحدث أنفصاماً  في تطوير تجربة العدالة في السودان ، سياسة التمكين التي حملت الموالين للسلطة الي تلك المناصب بما نتج عنه في إحدي مراحله سيطرة القضاه الشرعيين علي العمل و تطابق نظرتهم مع الخطاب السياسي الرسمي المتسم بالرفض والعداء لمفاهيم و حزم حقوق الإنسان و التحصن خلف تبريرات مخالفتها لجوهر العقيدة الدينية و تمظهرها كنفوذ ثقافي غربي يسعي لطمس هوية الامة .
(3)
حادثة تاييد إدانة الطالبة الجامعية  ذات ال 19 عاماً  ( التي تم عقد قرانها في سن 16 عاما) [2]بمخالفة المادة 130 من القانون الجنائي لسنة 1991 القتل العمد من قبل محكمة -الاستئناف  في 10 مايو 2018 بعد ادانتها من من قبل محكمة اول درجة في يوليو 2017 جاء ليشكل سابقة سالبة وخطيرة في الممارسة المرتبطة بالعدالة في كل مراحلها ابتداء من التحري ، حيث أن سبب  ما حدث استعانة الزوج باخرين " لمعاونته " علي أغتصابها بعد رفضها معاشرته جنسيا  ، إفتراض علاقة الزوجية سبباً لاباحة ممارسة العنف يتعارض مع القانون الجنائي السوداني 1991 م وكذلك قانون الاحوال الشخصية  الذي يبيح التطليق  للاذي كسبب ،من ناحية ثانية فقد خالف الدستور الي جانب وخالف وثيقة اعلان القضاء علي العنف ضد المراة المعتمد  من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قراره رقم 48/104 [3]، و الذي من ضمن سياق تعريفاته للعنف ضد المرأه : (عنف  جسدي والعنف البدني والجنس والنفسي الذي يحدث في إطار الأسرة بما في ذلك الضرب والتعدي الجنسي على أطفال الأسرة الإناث ، و العنف المتصل بالمهر ، و اغتصاب الزوجة ، و ختان الإناث وغيره من الممارسات التقليدية المؤذية للمرأة ، والعنف غير الزوجي والعنف المرتبط بالاستغلال)
 (4)
بداهة إستعانة زوج بأخرين لمعاومنته في السيطرة علي زوجته أمر لا يقبله  الوجدان السليم ،إستخدام العنف في السيطرة ويعني ذلك مخالفة قانونية اغفلها التحري في سياق هذه القضية  لا يمكن اثباته الا بقرار طبي لان تفاصيل ما حدث يجعل من الذين استعان بهم الزوج  يواجهون تهمماً تحت القانون الجنائي لما لما قاموا به تجاه المجني  عليها نفسيا و بدنياً التي تجدر الاشارة اليها ( كمجني عليها في هذا الحيز )  فالمشرع السوداني في المادة 149 الاغتصاب لم يجعل من علاقة الزوجية سبب( أباحة ) للمارسة الجنسية غصبا و بالاستعانة باشخاص اخرين للمعاونة (وكانت نورا قالت في المحكمة إن ذووي زوجها زاروهم قبل يوم من الحادثة وقاموا بضربها وقام المجني عليه بأخذ حقه الشرعي منها بالقوة)[4]
(5)
في تقديري قرار المحمكة الذي ذهب الي ادانة المتهمة ( نورا حسين ) قد أغفل أن من خصائص القانون التي تدرس في المحاضرات الاولي لطلاب القانون  منها العمومية والتجريد لكنه قررالانحياز الي الشائع من ثقافة خاطئة مرتبطة بمفاهيم الانحياز الذكوري الذي يتصل باثبات أفعال "الفحولة " التي تندرج تحت التباهي المجتمعي في الثقافة الجنسية التي تجعل منها معركة بين أمراة و رجل يظل فيها الرجل هو الذي يلعب دور البطل علي الدوام ، القانون في  فلسفته يستند علي قواعد الاخلاق التي تقبلها المجتمعات و منها الخصوصية التي ترتبطب بمارسة الحياه بشكل عام سواء في الفضاء العام أو الخاص ، يتفرع من الخصوصية الحق في الاختيار  الذي ينبني علي "إحترام مبدا الكرامة الانسانية " ، في حالة هذه القضية كان الجديدر بالنظر الي جانب الانتهاكات التي تمت في مواجهة (المدانة ) استصحاب الظروف المحيطة والمرتبطة بالانسان كحالة علي سيبل المثال ( الخوف ، المرض ، فقدان الرغبة في لحظة من اللحظات ، العجز عن التعبير الصريح عن السبب ) وغيرها لكن بقرار المحكمة تتحول المعاشرة بين الازواج فعل يشوبه الضرب  بما يسقط عنها أية سمه إنسانية و يبيح إنتهاك الخصوصية بشكل عام و علي الوجه  الخصوص ياتي مسنودا بسابقة قضائية في حال الممارسة الجنسية  ليبيح "الاغتصاب الزوجي "  في مفارقة مثيرة للاستغراب ففي [5]الاول من سبتمبر 2017  شرع المشرع السوداني عقوبة السجن سنه  علي الازواج الذين ينتهكون خصوصية وسائل التواصل الاجتماعي لبعضهم اليس الامر مدعاة للحيرة  ان تحترم خصوصية التواصل ويباح انتهاك  الكرامة بين الازواج ؟
(6)
بتتبع قرار تأييد الادانة  يمكن بكل سهولة القول بأن قصور الاجتهاد في التطبيق السليم أو الصحيح للقانون هو ما شكل عقيدة القاضي الذي اشار الي عدم استفادة المدانة من الاستثناءات الواردة في القانون الجنائي ، حيوية تطبيق العدالة لا ياتي بالنظر الي النصوص من زاوية الجمود بل الاجتهاد واعمال الوجدان السليم فالقانون لم يتطور الا بالممارسة و اشير  هنا الي السوابق القضائية التي مثلت في كثير احيان جهد بشري خلاق اضاف الكثير الي التطبيق الصحيح للقانون ، لكن يبدو ان الامر احدي محصلات التدهور الذي شاب الممارسة و الذي يفرض بقوة النظر الي اصلاح شامل لكي يؤدي القانون دوره في حماية الافراد والمجتمع .
(7)
اخيرا بالاعتماد علي افادة احد الشهود بان الطرفين علي علاقة منذ 3 سنوات عمادها الحب اليس من باب الاستفزاز  ان يقدم احد اطراف علاقة بهذا الوصف علي ما لم يكن يخطر علي بال  الطرف الثاني من معاملة انتهكت القانون والاخلاق ؟ بل دعونا نذهب اكثر ان كانت تلك الحادثة الاولي فكيف كان سيكون مصير الممارسة الثانية هل ستتم بالاستعانة بالحبال لتقيدها ؟، الجنس ليس عملية مكانيكية ، بل عماد الحقوق المتساوية و المشتركة لانها في الاساس ممارسة مشتركة لا تتحقق بطرف دون الاخر الا و تغير المسمي الي فعل اخر  ، العنف و "الفتوة" الفعلية واللفظية المرتبطة بالمجتمعات في سياق الحديث عن الجنس ظل يطلق في سياقات لا تعتد بالمساواة و لا تعترف بالاخر  ، فإن كان هنالك ما يجعل الاصلاح القانوني أمر ملح فيجب الا يقتصر علي النصوص بل يجب الانتباه الي التاهيل المهني الذي صار  يستسهل النظر الي النتائج و اغفال الاسباب . .



[1]  الدستور الانتقالي السوداني لسنة 2005
[2]  - وفقا لمنظمة العفو الدولية في بيانها بالللغة العربية المنشور بصحيفة الراكوبة الالكترونية 11 مايو 2018 (منظمة دولية تدين إعدام سودانية قتلت زوجها في شهر العسل –عاشرها بمساعدة اقربائه) .
[3] - اعلان القضاء علي العنف ضد المراة الصادر من الامم المتحجة
[4] - تطورات جديدة في محاكمة (نورا) المتهمة بقتل زوجها طعناً بالسكين- قام بمعاشرتها عنوة مستعيناً بأقاربه –صحيفة الراكوبة الالكترونية 10 مايو 2018
[5] - قانون جرائم المعلوماتية السجن عامآ لاطلاع أحد الزوجين علي هاتف الأخر دون إذن – م…- سودانية 24 – 1 سبتمبر 2017 .
مصدر الصورة محرك البحث قوقل 

الخميس، 10 مايو 2018

محاكمة موسي هلال ... حلفاء الأمس أعداء اليوم


بقلم: محمد بدوي في مقال سابق بتاريخ 28 نوفمبر2017تناولنا أحداث إعتقال موسي هلال تحت عنوان ( موسي هلال أو سيرة الهدر الانساني ) في هذا المقال نواصل مالات ما بعد الإعتقال و الذي إمتد من( 26 نوفمبر 2017 – 3 مايو2018) حيث تغير وصفه من معتقل الي منتظر قيد المحاكمة ،وفقا لما كشف عنه وزير الدولة بالدفاع علي أحمد سالم بالبرلمان في 3 مايو2018 ان هلال مثل في30 ابريل 2018 أمام محكمة عسكرية بالخرطوم مضيفاً تاريخ سير إنعقاد جلسة المحاكمة الثانية في الثالث عشر من مايو 2018 ،داخل ثكنات القوات المسلحة يشير الي ان هلال عاد بعد 15 عاماً لذات النقطة التي بدأ منها التحالف مع الخرطوم ففي 2003 أشرفت الاستخبارات العسكرية علي تأسيس قاعدة مستريحة العسكرية و تسليحها وتنصيب هلال ( بكامل إرادته ) قائدا لها (2) وفقا لما ظل يرشح من معلومات فقد بلغ سجل الاعتقال ما فاق (300) شخص من المنضوين تحت مليشيا حرس الحدود و جناحها ( مجلس الصحوة الثوري ) الذي يقترب من توصيفه كساعد اقتصادي أكثر منه جسم سياسي ، فقد ظل هلال لاخر لحظة يشير الي انتمائه لعضوية المؤتمر الوطني بل هي التي دفعته عضواً بالبرلمان منذ العام 2010 تم توزيع المعتقلين للحبس وفقا لمعايير لا تزال مجهولة بين سجن شالا بولاية شمال دارفور و السجن الحربي و الاستخبارات العسكرية بالخرطوم ، علي خلفية مخالفة قواعد المنشور الرئاسي بالرقم 419 لسنة 2017 و الخاص بجمع السلاح و تقنين السيارات بولايات دارفور و كردفان (3) تضاربت التصريحات حول سبب اعتقال هلال و منسوبيه فقد سبق الامر تبادل لتصريحات اعلامية حملت التحدي بينه و بين نائب الرئيس حسبو محمد عبدالرحمن في اغسطس 2017 علي خلفية حملة جمع السلاح ، ثانيا الفريق محمد حمدان دلقو خميدتي السبب لما تم بربطه بمقتل العقيد عبدالرحيم دقلو قائد التموين بالدعم السريع في مستريحة ، و اخير ما دفع به وزير الدولة بالدفاع علي احمد سالم وفقا للتصريح الاعلامي بان هلال ستتم محاكمته وفقا لقانون القوات المسلحة . (4) لتتبع السبب و الذي يعتبر سياسي في المقام الاول تجدر الاشارة الي انه و حتي قبل صدور القرار 419-2017 لم يصدر قرار يشير -الي فك الارتباط بين مليشيا حرس الحدود التي تم تسكينها تحت مظلة القوات المسلحة السودانية في العام 2004 ا تحت مسمي قوات استخبارات حرس الحدود و ثم لاحقا قوات حرس الحدود في 2005 ليتفرع السبب الي ان ما وراء السياسي هو صراع الموارد بين هلال و الخرطوم حول (الذهب في جبل عامر) (5) أن كانت ثمة محاكمة لهلال فيجب ان تتم بعيدا عن طريقة الاعتقال التعسفي و مخالفة معايير المحاكمات غير العادلة ، بل يجب أن تكون امام محكمة مستقلة ونزيهة وعلنية ذات اختصاص بالقانون الدولي الانساني و محاكمة جرائم الحرب و التكسب من الموارد في مناطق الصراع و ان تشمل المحاكمة كل الفاعليين الحكوميين من السياسيين و القوات النظامية الذين قاموا بادوار مختلفة لتجنيد المليشيات ، التسليح ، القتال و القرار السياسي الذي خطط لذلك ، و هنا يطل دور الضحايا والناجيين في ممارسة حقهم في الحصول علي العدالة والانصاف والتعويض العادل (6) قواعد العدالة تقتضي معاملة المقبوض عليه بما يحفظ حقوقه لكن يبدو ان الذين سربوا الصور التي كشفت طريقة القبض علي هلال قد قصدو الاذلال دون وعي بان ذلك ( رغم اعتراضي عليه ) عبر صورة معلنه ( لمصير قادة المليشيات ) ، محاكمة هلال لمخالفته منشور جمع السلاح او غيره من التهم التي لم تشمل ما اقترف من انتهاكات تحت امرته لن يسقط ما ارتكب من جرائم و لن يؤثر في موقف حق الضحايا لان اشكال الانتهاكات التي تمت لا يمكن ان تسقط بالتقادم ، فما يحدث استخدام للقانون " اطار لتصفية الحسابات بين حلفاء الأمس أعداء اليوم في ازمة دارفور " مصدر الصورة محرك البحث قوقل

الثلاثاء، 8 مايو 2018

طيف الدرويش ماركس! .. بقلم : البراق النذير الوراق - صحيفة سودانايل الالكترونية في 8 مايو2018

(الصبر هو الشرط الأول لتعلم أي شيئ ودراسته بعمق، كل هؤلاء الكتاب من الطبقة الوسطى- إن لم يكونوا متخصصون- لديهم نزعة للكسب الفوري للمال أو الشهرة أو الحظوة السياسية، وذلك بغض النظر عن الجهة التي استقوا منها أفكارهم الجديدة). من رسالة كارل ماركس لفريدريك أدولف سورج- 15 ديسمبر 1881* في مقال له بعنوان (قراءة عصرية في منشورات المهدية) وجدته منشوراً على الانترنت منذ عام 2011، أورد الدكتور محمد وقيع الله عبارة نسبها للفيلسوف والمفكر كارل ماركس قال فيها: (إن ماركس كان على اطلاع عام على أخبار الثورة المهدية، مما كانت تنشره صحيفة (التايمز) البريطانية من أخبارها. وعلى إثر معركة الجزيرة أبا في عام 1881م، قيل إنه كتب إلى رفيقه في الفكر والنضال، فريدريك إنجلز، قائلا: إن الأخبار التي تأتينا من السودان، في هذه الأيام، أخبار مثيرة للفكر، وإنها ستدفع بنا إلى أن نجيل النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي، الذي ندعو إليه، وستجبرنا على إعادة التأمل في حديثنا عن أن الدين إنما هو مجرد إفراز للوضع الطبقي، وتدعونا إلى النظر بعين النقد إلى أطروحتنا المتفرعة عن ذلك، وهي القائلة إن: (الدين أفيون الشعوب). فإن الدين الإسلامي، بهذه الصيغة الثورية المهدوية المتفجرة في السودان، أصبح، وسيضحى وقودا للثورة العالمية ضد الإمبريالية، ولا يمكن أن يوصف بأنه أفيون يخدر المستضعفين كما كنا نقول!) انتهى الاقتباس من المقال. وقد كرر السيد الصادق المهدي نفس العبارة مع اختزال بعض الكلمات في مقال له بعنوان (الماركسية: قراءة جديدة) نُشر في عدد من الوسائط في 6 مايو 2018 حيث قال: (بعد انتصارات الثورة المهدية على قوى امبريالية قيل أن ماركس علق على الأحداث في السودان بقوله: إن الأخبار التي تأتينا من السودان في هذه الأيام مثيرة للفكر، وسوف تدفع بنا أن نراجع النظر في مجمل بنية المذهب الشيوعي لكي نراجع مقولة أن الدين هو مجرد إفراز للوضع الطبقي فإن الدين الإسلامي بهذه الصيغة المهدوية في السودان أصبح رافداً للثورة العالمية ضد الإمبريالية. أي أن النهج العلمي لا يضع قيداً أيديولوجياً يحجب معطيات الواقع.). انتهى الاقتباس من مقال السيد الصادق. ما أود تأكيده هو إنني لست مهتماً هنا بتفنيد أو إثبات المقولة المنسوبة لماركس حول السودان إبان اندلاع الثورة المهدية، بأكثر من اهتمامي بالحث على الجدية في التوثيق والنقل والإحالة(reference) وهو أمر سهل في هذه الحالة كونه ينجح ببساطة وفقط بتدوين المحطات القصيرة في مكاتبات ماركس(1818-1883) مع إنجلز(1820-1895) في فترة معاصرة الأول للمهدية وللإمام محمد أحمد المهدي(1844-1885)، وهي بالطبع فترة لا تتجاوز العامين، بين انتشار خبر المهدية في 1881، ووفاة ماركس في عام 1883. وكذلك ليس مهمتي نفي إعجاب ماركس بالثورة المهدية فهذا إن حدث فهو مما يسعدني وتتهلل معه أساريري. إن مهمتي الأساسية تتلخص في دعوة كليهما، السيد الإمام والدكتور وقيع الله، لتمحيص التاريخ ووضع بينات ودلائل ووثائق تفيد في إثبات ما نقلاه عن ماركس أو نفيه أو مراجعته، فتاريخنا لا يحتمل مزيداً من المغالطات، وإرثنا في الاستدلال بالقول الشفاهي أورثنا قعوداً معرفياً وطيشاً فكرياً وعصبية في الرأي وعواراً في المنطق! لكن عليّ أن أقول إنني لا أقرأ للدكتور محمد وقيع الله إلا لماماً، وفقط من باب المراجعة والتدقيق لبعض المعلومات التي تُنسب لمقالاته ويتخذها بعضهم مرجعاً، وذلك لأنني تابعت بعض مقالاته في العشرية الأولى بعد الألفية في بعض الصحف السودانية، فوجدت كتابته من (ضريع)! ولذلك فانطباعي عن موقفه لا هو بالسلبي ولا هو بالإيجابي، أي(neutral)، أما السيد الصادق، فهو عندي أمره مختلف، فمن خلال قراءتي لما يكتب، أجد أنه دارس ممتاز للتاريخ ومدقق رفيع للغة، ومحقق وموثق جيد، ما يجعل كتاباته وتحليلاته في السياسة والفكر مادة يعوَّل عليها، إلا أنه يتميَّز بالاسهاب، الأمر الذي يجده نفر غير قليل ممن يعيشون في عصر التكنولوجيا والرسائل القصيرة، أشبه بأعمال شاقَّة. غير أنني ممن يستمتعون بكتابات السيد الإمام ويتفحصون ما يكتب على أية حال. لقد عاش ماركس في العقد الأخير من حياته، في حالة مُزرية بعد أن تكالبت عليه عوامل الفقر والمرض والغربة، وكذلك موت الأعزاء في حياته وبينهم زوجته التي توفيت في العام 1881، وهو ما كان ذو أثر عظيم على صحته حتى فارق الحياة، في هذه الفترة تراجعت قدرته على الانتاج الكتابي، وأصبح شغله الشاغل الانتهاء من سفره العظيم (رأس المال). كان اهتمام ماركس الأكبر بالكتابة عن الرأسمالية في أوربا وتوحش السوق وطمع رجال المال والأعمال واستغلالهم للعمال والشغِّيلة، خصوصاً في بريطانيا التي عاش فيها وقتاً طويلاً وكتب عن مجتمعها بأكثر من غيرها، كما أن عظيم ملاحظاته في كتابه رأس المال حازت عليها بريطانيا بلا منازع. قضى ماركس أياماً في الجزائر وكتب من هناك عدداً من الرسائل لم يوجد بينها أي أثر للمقولة المذكورة، بل ركّز أكثر بالكتابة عن حياته القصيرة هناك وذكرياته الأسرية. وتعليقاته في خطاباته ورسائله لم تتعد في الغالب ملاحظات عابرة عن المجتمع الجزائري والمستعمر الفرنسي وأحوال الطقس وبعض النكات الساخرة. انتشرت أخبار الدعوة المهدية في العالم بعد معركة الجزيرة أبا(12 أغسطس 1881) هذه المعركة التي جاءت بعد أن وقعت بعض منشورات المهدي في يد المستعمر الذي لم يكترث لها لولا تنبيه الشيخ محمد شريف نورالدائم لخطرها، فحاول المستعمر اعتقاله بالقوة فهزمه المهدي بجيش صغير وذكاء خارق. هذا التصدير ضروري لنعرف كيف خبر العالم أمر المهدية؛ إذاً، الصحف البريطانية لم تنشر أخباراً عن المهدي ودعوته إلا بدءً من العام 1881! ماركس عاش في الجزائر من 20 فبراير 1881 وأقام هناك لمدة تزيد عن الشهرين بقليل، أي أنه غادر منطقة الشرق الأوسط قبل انتشار الأخبار عن المهدية. وبقليل رصد لرسائل ماركس لصديقه إنجلز، نجد أن الأخير لم يستقبل أي رسالة من ماركس خلال العام 1881، كما أن إنجلز أرسل رسالتين فقط لماركس في نفس العام، الأولى في العاشر من أغسطس والثانية بعد الأولى بيوم واحد فقط. أما في العام 1882 فقد استقبل إنجلز من ماركس رسالتين فقط، بينما استقبل ماركس من إنجلز ست رسائل. لم تحتوِ أي من هذه الرسائل على المقولة الواردة في مقال وقيع الله والسيد الإمام ولا بأي من الصيغتين، كما أن غالب الرسائل كانت حول تفاصيل علاقاتهما أو ملاحظات حول الكتب أو نقاش في قضية فلسفية أو علمية محددة أو المعادلات الرياضية والنظريات الحسابية التي عجَّ بها كتاب رأس المال. على أنه من الضرورة بمكان الإشارة لما كتبه الأستاذ ثروت قاسم في مقال له بعنوان (هل الصادق المهدي شيوعي؟) نشره في يناير 2015، كتب ثروت قاسم: ( في كتابه المقرؤ ( قراءة عصرية في منشورات المهدية ) يحدثنا الدكتور محمد وقيع الله ، بأن كارل ماركس قد كتب في يوم الثلاثاء 27 نوفمبر 1883 ، بعد أقل من شهر من كتاحة شيكان ، لصديقه فردريك انجلز مفكر الشيوعية الأبرز رسالة مفتاحية في الأدبيات الشيوعية). انتهى الاقتباس. يا للهول..!! أنا لم أقرأ كتاب الدكتور محمد وقيع الله، ولكن إن صدق نقل الأستاذ ثروت عنه، فسيكون أمر الدكتور قد تعدَّى الاستعجال إلى التزوير الواضح، فالمعروف أن ماركس توفى في مارس 1883، وشيكان كانت في أكتوبر 1883، أي بعد وفاة ماركس بسبع أشهر! لقد راسلت بعض الجهات المهتمة بتوثيق رسائل ماركس وإنجلز، ولم يعطوني إجابة كافية حول الموضوع ولكن ما أكدته لي هذه الجهات، أنه ربما تكون هناك رسائل سقطت هنا أو هناك، بيد أن الفترة المذكورة مرصودة بالكامل وموثقة ولا يبدو أن هناك رسالة سقطت أو لم يتم العثور عليها. على أن السؤال المُلح، ما هو الداعي من دس معلومة مشكوك في صحتها وعمادها القيل والقال بين ثنايا التاريخ؟! بالنسبة للسيد الإمام فأنا لا أجد له مبرراً سوى صلات الدم وسيرة الأسرة والتاريخ السياسي لحزبه ومحاولته نفح تاريخه الشخصي كقائد وإمام ووريث وخلف لخير سلف، ولو أن ماركس أقرَّ فعلاً بخطأ في نظريته التي كرّس لها حياته وأثّرت من بعده على تاريخ العالم وتكوينه الجغرافي والفكري والمعرفي بسبب ثورة محمد أحمد المهدي، فحري به الاحتفاء وحقيق به أن يضعها السيد الصادق ديباجة في مكاتباته ورسائله إن شاء. أما بالنسبة للسيد وقيع، فليس هناك سبب أكبر من الدفاع عن فكر الإسلام السياسي، والسرور بأن ماركس نفسه ربما كان سيدعو ل(ماركسية إسلامية)، وربما كاد ماركس أن يقول للناس اتحدوا وانتظموا خلف قيادة الإمام المهدي القادم من بلاد السودان! والعبارة الأخيرة منقولة نصاً عن مقال الدكتور المذكور. على أنني لا أجد مبرراً للسيد الصادق المهدي كي يضع هذه المعلومة دون مصادر واضحة ومرجع مؤتمن واستيثاق مضمون، فالثورة المهدية كتب عنها سلاطين وتشرشل والرحالة والمستشرقون الغربيون، وكتب عنها الموظفون الحكوميون المصريون فزاد من زاد ونقص من نقص، وأفاض فيها فطالحة المؤرخين في السودان وسائر دول العالم. كما إن المهدية صنعت تاريخها الخاص، الذي يفوق الإلياذة والأوديسا في صدقيته وواقعيته وغزارته وتنوع الأحداث فيه. فهل بعد كل ذلك نحتاج لمعلومة غير موثوقة ومدققة كي نحتفي بها؟! غير أني أجد أكثر من تبرير ليفعل الدكتور وقيع الله ما فعل، فالنظرية الماركسية حتى وإن اختلفنا معها فهي تؤيد العلم وتدرس الوقائع وتحللها وفق المنهج المادي الديالكتيكي وذلك لمصلحة المجتمعات المستضعفة والقطاع العريض من العمال والفقراء وصغار المزارعين والمنتجين المحليين وصولاً لديكتاتورية البروليتاريا، في حين أن منهج الدكتور يتناقض مع العلم ويبحث في الفراغ ويمني الناس بما يقعد بواقعهم ويغرقهم في الجهل والتخلُّف! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المراجع 1- تاريخ السودان الحديث- محمد سعيد القدال 2- السودان بين يدي غوردون وكتشنر- ابراهيم فوزي 3- رسائل متبادلة بين ماركس وإنجلز www.Marxists.org 4- https://www.lwbooks.co.uk/ 5- الماركسية: قراءة جديدة- مقال- الإمام الصادق المهدي 6- قراءة عصرية في منشورات المهدية- محمد وقيع الله 7- هل الصادق المهدي شيوعي؟- ثروت قاسم 8- ترجمة النص في بداية المقال بواسطة الكاتب وهي ليست ترجمة رسمية baragnz@gmail.com

تماس: فاجأوني دموع مطروني*

تماس: فاجأوني دموع مطروني*: نشر بتاريخ : 15 ديسمبر 2018 شكل العام 2011م احدي المحطات المهمة في سياق التاريخ السياسي السوداني، لإقترانها بإنفصال جنوب السودان , اعلا...

الاثنين، 7 مايو 2018

تماس: بيننا و القرن الإفريقي ... نوتة حب موسيقية

تماس: بيننا و القرن الإفريقي ... نوتة حب موسيقية: بيننا  و القرن الإفريقي ...  نوتة حب موسيقية الصورة للفنانة التنزانية الراحلة فاكمة بت بركة الشهير ب ( بي كدوده ) إستشراف قب...

حركة الأفريقانية والإسلام السياسي في غرب أفريقيا (غامبيا نموذجاً)

نشر بتاريخ : 17 فبراير 2017
- مصدر الصورة محرك البحث قوقل مغادرة يحي جامع قامبيا ستشرفت دولة غامبيا في 17 يناير 2017م تاريخاً جديداً بطي صفحة دكتاتورية الإسلام السياسي برحيل الرئيس السابق يحيى جامع، الذي امتدت فترة حكمه من 1994 -2017م وهو بجانب رئاسته للدولة يعتبر القائد الأعلى للقوات المسلحة. جغرافية الموقع تظهر من دولة غامبيا تبدو كلسان يخرج هازئاً من داخل دولة السنغال ممتداً ليعانق المحيط الأطلنطي، سيطر جامع على زمام السلطة بدولة لم يتجاوز عدد سكانها المليونان والثمانمائة ألف نسمة، شكل المسلمون فيها نسبة 90%. التغيرات السياسية في المحيط الإقليمي لغرب أفريقيا من نجاح الانتخابات النيجيرية والانتخابات في دولة بنين، صعود تيار الحقوق والمحاسبة بدولة السنغال الذي أفضى إلى محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين هبري بتهم تتعلق بارتكابه جرائم حرب في العام 2016م، أضف إلى ذلك صعود تيار البان أفريكانيزم ممثلة في الجيل الثاني من مدافعي حقوق الإنسان حيث تقلد الناشط الحقوق Prof Chidi Odinkaluo رئاسة مفوضية حقوق الإنسان بنيجيريا، كذلك المدافع والنشاط Sidiki Kaba الذي تولى وزارة العدل بدولة السنغال في 2013م ، وأيضا المحامي والمدافع السنغالي[1] Ibrahima Kane الذي ظل يعلن عن مواقفه الواضحة في دعم حركة الأفريقانية، وعدم التعويل على الدول الغربية في إحداث النقلة الديمقراطية في أفريقيا، كل ذلك تعد مؤشرات لفشل جهود دكتاتورية يحيى جامع في البقاء على السلطة في غامبيا. شكلت تجربة غامبيا في التحول الديمقراطي تجربة جديرة بالدراسة والاستفادة منها في سياق التحولات المرجوة في الدول التي اقترنت فيها الدكتاتورية بالإسلام السياسي، من خلال سجل التجارب الانتخابية فقد عول جامع على عدم وحدة المعارضة ليفوز بسهولة في الانتخابات كسابقتها في العام 2012م، الأمر الثاني تمثل في إعلانه لغامبيا كدولة إسلامية في 12 ديسمبر 2015م في خطوة منحت تيار التحول الديمقراطي فرصة واسعة من الدعم الإقليمي، حيث شكلت تلك الخطوة تهديداً للأمن والسلم الإقليمي لغرب أفريقيا مقترنا بتمدد مجموعة بوكو حرام المصنفة كجماعة إرهابية في غرب أفريقيا انطلاقا من نيجيريا ومحاولات تمددها شمالاً وغربا نحو تشاد مما عزز التضامن الإقليمي في اتخاذ مواقف ضد غامبيا، الأمر الثالث أنه كغيره من الدكتاتوريات “يقرأ المكتوب بالقلبة” حين أعلن قبوله لنتيجة الانتخابات التي هزم فيها قبل أن يعود ويعلن سحب تصريحه وتمسكه بالسلطة. تجربة ساحل العاج في العام 2012م التي أجبر فيها الرئيس السابق Laurent Gbagbo على المغادرة عنوة من داخل غرفة نومه كانت بمثابة ميثاق لم يمر بمراحل المصادقة لكنه منح غرب أفريقيا الريادة في التحول الديمقراطي، بذل الرئيسان الغيني ألفا كوندي والموريتاني محمد ولد عبدالعزيز جهوداً في إقناع جامع بالمغادرة عقب خسارته للسلطة، وذلك لتتجنب غامبيا التدخل العسكري . تجربة جامع تشير إلى كيف يمكن للدكتاتوريات أن تستنفذ كل تكتيكاتها في ظل ارتفاع مد التحول الديمقراطي، ثقافة الحقوق، واتساع نطاق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها في مجال المناصرة للتحولات المختلفة. أسبغ جامع على نفسه سلسلة من الألقاب التي سبقت أسمه فهو (البروفسور، الدكتور، المهندس، والشيخ يحيى جامع). ادعى جامع أرفع الألقاب العلمية التي أشارت إلى حالة “تضخم الذات” التي اعترته لكي يثبت أنه جدير بالمكوث بالسلطة، بل ذهب في العام 2007م إلى ادعاء قدرته في علاج مرض نقص المناعة (الإيدز) ليربط بين الحاكمية الإلهية لجلوسه في السلطة وخصه بالمعجزات . محاولات الاتحاد الأفريقي لتحسين حالة حقوق الإنسان بغامبيا تمثلت في جعل العاصمة بانجول تستضيف مقر المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، الآلية المعنية بمراقبة حالة حقوق الإنسان وتنفيذ الاتفاقيات الأفريقية في مجال حقوق الإنسان والفصل في المنازعات ذات الشأن، بين الدول، وبين الدول والأفراد في القارة، إلا أن ذلك ذهب أدراج الرياح حيث ظل سجل غامبيا يشير إلى صعوبة الوصول إلى العدالة والإنصاف، التدهور مستمر في سجل الانتهاكات؛ التنفيذ الواسع لعقوبة الإعدام دون ضمانات للمحاكمات العادلة، الاختفاء القسري وتدني مساحة حرية التعبير والتنظيم (وعلق الاتحاد الأوروبي بشكل مؤقت أموال المساعدات لغامبيا العام الماضي بدعوى “سوء سجلها بمجال حقوق الإنسان” وهي تحتل المركز 165 من بين 187 دولة بمؤشر الأمم المتحدة للتنمية)[2] الحالة الاقتصادية بغامبيا ظلت تعتمد على الزراعة كمورد أولي بالإضافة إلى السياحة، فلم تقو غامبيا على الوقوف في وجه التحولات الاقتصادية في العالم من جراء العولمة فارتفعت تكلفة الحياة في وقت وجيز، ولا سيما بعد العام 2011م لم تفلح السياحة في رفد موارد الدولة بشكل أمثل لسوء إدارتها. لم ينتبه جامع إلى ارتفاع مد الوعي نحو التحول الديمقراطي فحاول التخندق بالرفض لكنه تفاجأ بالقوات السنغالية على حدود دولته لتمهله أربع ساعات للمغادرة، ليغادر مجبراً تاركاً كل ألقابه كي يتسع الحيز لحمل أمواله التي سُمِح له بأخذها معه، إلى جانب ذلك فقد غادرها بعد أن عزفت له الموسيقى الرسمية للدولة قبل صعوده للطائرة، ليقدم الشعب الغامبي نموذجاً في الوعي فتلك الموسيقى لم تكن لوداع جامع بل استقبالا مجيداً للتجربة الديمقراطية السلمية. تضاءل الخيارات أمام جامع جعله يختار دولة غينيا لينجو من الخضوع للمحاسبة على الانتهاكات التي حفل بها سجل حكمه، اختياره لتلك الدولة ظناً أنه في مأمن أمر سيحسمه الزمن فالرجل يراهن على تدهور العلاقة السياسية بين غينيا بيساو وفرنسا، جرائم التعذيب والاختفاء القسري ستظل هي الكوه التي تفتح ملفات المحاسبة وإن طال الزمن. الهوامش [1] رئيس غامبيا يعلن بلاده جمهورية إسلامية ، الجزيرة نت ، 12، 12 ، 2015 م. [2] Open Society Foundation, Director of Advocacy of African Union.

المشهد الثقافي بجنوب السودان ذاكرة الإبداع و تحولات الراهن (2-2)



المشهد الثقافي بجنوب السودان ذاكرة الإبداع و تحولات الراهن (2-2)
جيل الاستقلال ، الثراء و التنوع:
السياسات السودانية التي أعقبت انفصال الجنوب لم تُراعِ الخلفيات التاريخية ذات الارتباط العضوي في بعض المناحي وخاصة في مجال التعليم، فجامعة جوبا التي استقرت بمدن الخرطوم في مسيرة استقرارها الثانية عقب تأسيسها في العام 1997م ، كانت تُمثل قاعدة لعددٍ كبيرٍ من الطلاب المنحدرة أصولهم من إقليم جنوب السودان قبل الإنفصال ، بالطبع هنالك أعداد مقدرة في الجامعات الأخرى ، لكن تم إغلاق جامعة جوبا بطريقة غير محترفة حيث كان يمكن الإبقاء عليها وعلى اسمها إلى أن يتم تخريج آخر دفعة التحقت بالجامعة في العام 2011م، تلك الخطوة دفعت بكثير منهم إلى اللجوء الى الدراسة بمصر ودول شرق أفريقيا كينيا ويوغندا التي تحوي ما يُقارب الـ50000 طالب وطالبة بجامعاتها المختلفة، هذا الأمر يظهر تأثيره في انحياز هذا الجيل إلى الفن في شرق إفريقيا من حيث نوعية الغناء والرقص بالإضافة إلى الانضمام إلى ثقافة متابعة الأفلام والمسلسلات النيجيرية ، التي استطاعت السيطرة على نسب مشاهدة كبيرة بدول شرق أفريقيا ، بالرغم من ذلك فالأمر فتح نوافذ متعددة ، فأصبح هنالك من لازال يستمتع بأغنيات الراحل محمود عبدالعزيز لكنه يجمع بينها وبين الاستماع بذات المتعة لمن اكتشفهم في شرق إفريقيا من الفنانين دكتور كامليون وراديو أن ويزي وبيبي كول ، حتى لا نغفل التأثير الشمال أفريقي والشرق أوسطي للغناء كمحمول وفد إلى دول شرق أفريقيا مع الطلاب الذين قدموا من الخرطوم أو من مصر ،  فليس من الغرابة أن تتفاجأ بالـ(دي . جي)  في إحدى أندية شرق إفريقيا ، وهو يبث أغنيات من لفنانين من الخليج العربي أو الشرق الأوسط  فهي  تأتي في سياق المحمول الذي ظل يشكل حضوراً في الساحة  ، بل يعتبر هذا الجيل هو من أستطاع ربط الشمال الإفريقي بالشرق الإفريقي فظل ارتفاع أغنيات الفنان النوبي المصري محمد منير ، و رغم أنها بشكل محدود تشكل حضوراً في محيط  منابع النيل .
في ختام: الفقرة أود الإشارة إلى أنه يجب الفصل بين الهوية و بين التنوع في تلقي و تذوق الغناء ، و الانحياز إليه فلا يجدر بنا السقوط في وحل التحميل غير المنصف للغة الأغنيات و إشكالات الهوية ، فلو حدث ذلك فليس من مبرر يجعل كاتب المقال يعشق غناء بوب مارلي ، بذات المقام الذي يحتفي فيه بغناء الكثيرين على سبيل المثال ، محمد عثمان وردي ، مصطفي سيد أحمد ، محمود عبدالعزيز ، ،نانسي عجاج  ، النور الجيلاني ،  مانو دبانقو ، سالف كيتا ، محمد منير و القائمة تطول .
المشهد الآن :
في الساحة الفنية بجنوب السودان العديد من الفرق التي تعمل على احياء المشهد الثقافي مثل  الرقص الاستعراضي  الذي أخذ زمام المبادرة فيه معهد اورباب للرقص و الفنون الذي يقف على رأسها استيفن افيرا اوشلا، والذي أطلق المركز مبادرة عشان بلدي ووفقاً للحوار مع ملف الموقف الثقافي فان المبادرة هدفت إلى تقديم أغنيات وطنية تدعوا لإزالة الغبن و الكراهية والرعب الذي سكن نفوس المواطنين جراء الأحداث الأخيرة في مدينة جوبا [1] ، في سياق الحوار جاءت مشاركة استيفن في ورشة لتطوير الموسيقى في  شرق افريقيا و محاولة لوضع منهج عالمي موحد ، مع الإشارة إلى أن الورشة عقدت في أديس أبابا بإثيوبيا ، لعل ما يدفعني للتعليق هو أن إثيوبيا  الدولة المستضيفة تعتبر أحد دول القرن الإفريقي و ليس الشرق الإفريقي ربما تم اتخاذ أثيوبيا كموقع للانعقاد فقط لكن أن كانت بمشاركة أثيوبية فإن المؤتمر يُعنى بتطوير الموسيقى في الشرق و القرن الإفريقي وهنا تبرز مسألة السلم الخماسي و بذات المنحى فهنالك سؤال يطرح نفسه هل  يتبني معهد أورباب عبر تلك المشاركة تبني السلم الخماسي في أعماله ؟ إذا كانت الإجابة بنعم فهذا يعني أن المعهد يجلس على إرث ضخم من الأعمال الإبداعية التي سلكت السلم الخماسي على امتداد تاريخ ما عرف سابقاً ( بالسودان الموحد)
الفرق الفنية مثل ميقا اندبندت التي تكونت في العام 2010م بغرض الاستعداد لانفصال جنوب السودان و العمل من أجل انهاض ثقافة جنوب السودان ضد الثقافات التي اسماها مؤسس الفرقة اوتيم ديفيد في حواره مع الملف الثقافي لصحيفة الموقف في 28 سبتمبر2016م[2] ، وهنا يجب أن نشير إلى أن الاسم مأخوذ من لغة الاشولي و هي تعني الحاجة العظمية أو الحدث الأعظم و كان مقصود به انفصال جنوب السودان و ظهوره كدولة مستقلة كاملة السيادة في المجتمع الدولي ، ما يلفت الانتباه في تجربة ميقا إندبندت وفقاً لتصريح أوتيم ديفيد أن من التجارب المهمة التي خرجت بها الفرقة انها نجحت في أحداث تحولات في حياة بعض أفراد عضويتها البالغة 40 فرداً بعيداً عن حياة التشرد! هذه النقطة كما أشرت جديرة بالتوقف عندها و ذلك لكونها قابلة للتطور عند النظر إلى التجارب المشابهة و العابرة للحدود فتجربة ( إستيا لوسي)2 اليوغندية التي انطلقت في 2014م  و تمثلت في تكوين فرقة للرقص الذي أخذ ذات الاسم ( Sitya loss )  و التي تعني ( لا أخشي الخسارة) هي الاغنية التي كتبها الفنان إدي كنزو، استهدفت بعض الأطفال المشردين قبل أن تتطور الفكرة لتصبح أكثر تنظيماً ، و لعل المثير في التجربة هو الجديد الذي أسس به التجربة من رقص متفرد يعتمد على الحركات الرشيقة غير التقليدية الموجودة في الساحة ، بالإضافة إلى الطابع المسرحي  و الفضاء الذي أتخذ في البدء الشارع العام مسرحاً للأداء ، أضف إلى ذلك بعداً مهماً هو أنها انتبهت إلى أهمية الوصول إلى الجمهور عبر الفيديوهات التي راجت في الشبكة العنكبوتية قوقل عدد المشاهدات للتجربة  التي حملت أغنية  حوالي (643996 مشاهدة) 3 ، عند كتابة هذا المقال في 17 أكتوبر 2016م ، بذات القدر فان ميقا أندبندت ، و غيرها من التجارب في المسرح الثقافي العام لجنوب السودان يجب أن تنتبه للأمر فما يمكن أن يدفع به فيديو من خمس دقائق يعادل العديد من الصفحات المكتوبة ، فالثورة الرقمية أصبحت تطرق أبواب البيوت و القلوب بمحمولاتها الغنية لتتربع مرسخة بتلك التجارب مساحات على الذاكرة الإنسانية.
انطلاق منافسات المدارس الثانوية في مجال المسرح  في 12 أكتوبر 2016م [3]يعتبر حدثاً يحتاج إلى توثيق و رعاية من قبل الجهات المختصة ، فالحيوية التي تحتضنها مثل هذه المنافسات تغذي في المستقبل القريب الساحة الثقافية بفاعلين جدد و أفكار جديدة بالضرورة تعبر عن السير في طريق نحو التطور و الانتشار، أضف إلى ذلك فإن مساهمة جيل المسرحيين و المخرجين الجنوب سودانيين في مراقبة و متابعة هذه المواهب يجب أن تبدأ منذ  بالتزامن مع بداية الحدث لكي تترابط مسالة المجايلة و انتقال الخبرات و الدفع بها إلى المشاريع المسرحية الكبيرة ، فالتاريخ القريب لما عرف بالمليون ميل مربع قبل الانفصال وثق للدور الذي تعلبه هذه الفعاليات في تغذية المشهد العام بالمسرحيين و المخرجين و غيرهم من رواد حرفة المسرح .
فن النحت  الكدوس الخشبي :
حينما كانت أمسيات الخرطوم عامرة بالمدنية و الحب ، و كانت جوبا تنعم بإستقرار في فترات ما قبل بداية الحرب و الهدنة بين الحربين ، كان لفن النحت اليدوي و الأعمال اليدوية المبدعة سيطاً ، يرتاد رواد ذاك الفن من السودانيين و الأجانب  أسواق الخرطوم التي تخصصت في بيع تلك المشغولات و الجهد الفني البديع ، و كذلك سوق أمدرمان  ظل صناع و ملاك  ناصية هذا الفن الإبداعي الجميل تنحدر أصولهم من إقليم جنوب السودان سابقا ، لكن للتحولات الكبيرة في مسار الحركة المدنية في الدولة السودانية مثل إعلان قوانين الشريعة الإسلامية ، و عودة الحرب الأهلية في نسختها الثانية في العام 1983م ، أثر في ذاك الفن و لا عجب أن اكتشفنا أن الهوس الديني الذي تم وضع بذوره في أرض الواقع قد بدأ  يرسخ لمفهوم التحريم لبعض تلك المنحوتات عبر هجمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أضف أن حالة النزوح واللجوء قد فصمت عري تطور تلك الصنعة ، لكن برغم ذلك كان هنالك جيل من العاملين في المجال يصرون على ربط أواصرها عبر عرض أعمالهم في الشوارع العامة ( السكة حديد)  بالمنطقة الصناعية بالخرطوم ، بعد إعلان دولة جنوب السودان لم تتطور تلك الحرفة بالدولة والوليدة لأسباب منها أنها أصبحت حرفة غير ذات دخل مجزي في ظل ارتفاع تكاليف الحياة  اليومية .
دولة كينيا التي انتبهت للفراغ الذي تركته دولة جنوب السودان في ذاك المجال فكثفت جهودها في شغل الحيز الإبداعي بشكل كبير فتمكنت أن تصبح السوق الأولى في شرق إفريقيا بعد أن ربطة حركة النحت و العمل اليدوي بالسياحة ليسيران جنباً إلى جنب في تطور .
و لكن يظل لكل ثقافة ملمحها و لكل حرفة بصمتها تختلف زماناً و مكاناً وفقاً لمحمولات المجموعات التي تشكل ذاك الذهن المبدع ، فما يميز جنوب السودان في ذاك  المجال لا زال محتفظاً بمكانه شاغراً ، فلن تجد أجمل ما يمكن اقتنائه من ( كدوس خشبي) لماهر و مالك لحس الحرفة أناملاً و فكرة ، فكأن الكدوس هو البصمة التي لم تتمكن كينيا من تقليديه بذات علو الكعب ، أذن البحث العلمي و التقصي قد يكشف أن هنالك الكثير الذي لايزال بانتظار جنوب السودان للعودة إلى ساحة المنافسة الساحرة .
الجاليات  و التلاقح الفني:
التواصل بين الفن السوداني (سودانا ما قبل الانفصال)  ودول الجوار إثيوبيا وإرتيريا والصومال  في مجال الغناء ساعد في انتشاره تربع السلم الخماسي في دول القرن الإفريقي ، و ظل دور السودان رائداً حيث يُفصح عن ذلك في الساحة الفنية  الاحتفاء بالفنان محمد وردي في إستاد أديس ابابا في العام 1991م كفنان إفريقيا الأول إلى جانب الشهرة ذائعة الصيت للراحل سيد خليفة كأحد فناني الجيل من الرواد، ولعّل الحدود المفتوحة والحركة السكانية بين هذه الدول دفعت إلى ترديد العديد من الفنانين السودانيين بهذه الدول  ( في صفحته بالفيس بوك ذكر الصحفي مصطفي سري لقاءه مع وردي سائق التاكسي البريطاني صومالي الأصل بلندن ليكتشف أن سر الاسم ارتبط بعشق والده وردي للفنان محمد وردي )، الكثيرون من الصوماليين حتى من غير محترفي الغناء يرددون الغناء السوداني طرباً و استمتاعاً ، فالغالبية من الذين أستطلعتهم من جيل الشباب وقفوا عند حدود عشق الراحلان وردي  و سيد خليفة بل منهم من أدهشني بود خاص للفنان أحمد ربشة ، أما في كل من إثيوبيا وإرتيريا فقد ظل الراحل سيد خليفة يُمثل رقماً مهماً إلى جانب فنانين آخرين، في إثيوبيا لا غرابة أن يتم الترحيب بمقدم السودانيين إلى المحال العامة بتشغيل أغنيات سودانية  سواء بصوت فنانيها أو بأداء إثيوبي ولعّل الساحة تكشف يومياً عن الجولات الفنية للعديدين بين الدول، فزيارات الفنانة ندي محمد عثمان ( ندي القلعة) وأداؤها للأغنيات بلغة الأمهرينا تكشف ذاك العمق طبعاً إلى جانب آخرين أيضاً، بالمقابل فقد قوبلت زيارة الفنان الإثيوبي  تدي أفرو إلى الخرطوم في 2014م بحضور وتفاعل كبيرين ، إزاء هذا المشهد وبنقله إلى جنوب السودان نجد أنه قد تم نقل الفن السوداني لسودان ما قبل الانفصال عبر فناني دول الجوار إلى مدن إقليم جنوب السودان فساعد في انتشار آخر لذلك عبر طرف ثالث  نفذ إلى ذلك عبر بوابات مطار جوبا و معبري نمولي و كايا.
الغناء … فوق احتمال الحدود الجغرافية :
لم يقف الامر عند تلك المحطة فطروف حالة عدم الاستقرار التي شهدتها جنوب السودان في ديسمبر 2013م دفعت بالعديد من الجنوب سودانيين والأجانب إلى المغادرة إلى دولهم أو دول ثالثة مثل أوغندا وكينيا وأثيوبيا، هذه الهجرة الثانية عقب استقرار دام ثمانية سنوات استصحبت معها المحمول الفني الذي تشكل في جوبا، يقول صالح ( وأنا أدلف إلى أحد المراكز التسويقية بقلب العاصمة اليوغندية كمبالا، توقفت لبرهة لأتأكد من كلمات تلك الأغنية التي كانت تنبعث من هاتف يحمله شاب يوغندي، دون تردد وجدت نفسي أقف أمامه وألقي بالتحية عليه لأتأكد من أن كلماتها كانت أغنية  للفنانة ندي محمد عثمان (ندي القلعة) قبل أن أساله إن كان يعرف اللغة العربية أو الفنانة، هز رأسه بالنفي قبل أن يقول أنها إحدى الأغنيات التي أسكنها ذاكرة هاتفه عندما كان يعمل بمدينة جوبا بدولة جنوب السودان، وأضاف بأنه  رغم عدم فهمه لكلماتها لكنه معجب بالصوت والموسيقى )، كما أشرت أدت ظروف الحرب الثانية إلى خروج رؤوس الأموال من مدينة جوبا وأغلبها كانت في مجال الخدمات سواء الفندقة أو المطاعم فانتقلت إلى شرق أفريقيا تحمل معها ذات الذاكرة الغنائية التي تبثها الأجهزة سابقاً في جوبا  ( موسى عازف أورغن إرتيري الجنسية عاش لفترة من عمره بالمملكة العربية السعودية ليتعرف على الغناء السوداني عبر أصدقائه السودانيين قبل أن يُقرر السفر إلى جنوب السودان ليعمل عازفاً لعدة فرق إرتيرية وإثيوبية السبب المشترك بينها أداء الأغنيات السودانية إلى جانب الأغنيات باللغات الأمهرية والتقرنا، موسى من المعجبين بأغنيات الراحل إبراهيم عوض وطه سليمان ونانسي عجاج  بل يصر على أن ما يُميز الفرق التي عمل معها بالأداء المتنوع للأغنيات بخلفيات سودانية ولغاتها الأصلية ، استقر موسى بكمبالا العاصمة اليوغندية  كعازف يبحث عن التفرد في أداء أغنيات سودانية مع الفرق التي يعمل معها ، فموسى لم يزور الخرطوم أو أي من مدن السودان الشمالي لكنه تمكن من التقاط مدهش فترة وجوده بجنوب السودان .
عربي جوبا  والإنجليزية على قطار التحدي:
المشهد الثقافي وتشكُله في دولة جنوب السودان يحتاج إلى الاهتمام من قبل الدولة وذلك عبر إزاحة العصف السياسي الذي يتكتل عنوة على كاهلها ، فالارتباطات العضوية الثقافية بين السودانيين لا يُمكن مواجهتها بقراراتٍ سياسية ، فبالرغم من اعتماد اللغة الإنجليزية كلغةٍ رسمية ، لكن فرضها بحكم الواقع يُعتبر قرار سياسي في المقام الأول ، لأن عربي جوبا الذي يتفرع من اللغة العربية هو الشائع ، في تقديري الإصرار على اللغة الإنجليزية والتي تتم محاولة التبرير لها بأنها خطوة للانضمام إلى تجمع دول تحالف شرق افريقيا لا يصمد في الواقع وذلك لعدة اعتبارات واحدٌ منها أن المحاكم  لا تزال تجد سهولة في التعامل باللغة العربية وهو أمر طبيعي لأنها حتى الآن هي أداة المخاطبة الوحيدة التي يمكن التواصل بها بين المكونات المختلفة لمواطني دولة الجنوب، التجارب التاريخية التي يجدر الاهتمام بها أن السواحيلية لغة تشكلت على ذات نسق عربي جوبا لكنها في مسار تطورها استطاعت أن تكون لغة مشتركة لكل دول شرق أفريقيا بل ساعد الأمر في التبادل التجاري و غيره مما سار ليفرض في الواقع السياسي و الاقتصادي تجمع دول شرق إفريقيا الذي يعد أنشط و متقدم على تجمع دول غرب إفريقيا ، نخلص إلى أنه يجب النظر الجاد لما يتعلق باللغة لأنها ستضع هوية الدولة مفترق الطرق.
يجب أن أُشير إلى الإعلام: طال بالنظر إليه من جانب الحقوق هو استحقاق اختياري لابد أن يجد الاحترام لكن مع ذلك فإنه آن الأوان للنظر بعين موضوعية للانفصال كواقع بعيداً عن تلك العواطف التي تمت بها التعبئة أوان الاقتراع ، لأنه ببساطة الممارسات السياسية للحكومات المركزية بشكل عام وبشكل أدق سياسة الإسلاميين السودانيين والذراع السياسي حزب المؤتمر الوطني هو زاوج بين استخدام ذاك الحق والغبن الناتج عن سوء المعاملة الذي  اقترن كسمة في التعامل مع الحركة الشعبية وشعوب جنوب السودان في مرحلة تنفيذ الاتفاق وإبّان الحرب الأهلية وخلال  مراحل  عمر تجربة الحكم الوطني لما بعد الاستقلال، هذا الغبن تمت تعبئته بجفوة سياسية بين السودانيين دون الانتباه للتمييز بين مسلك الحكومات والشعوب السودانية التي في غالب الأحوال تُحاسب وفقاً لما يفعله الساسة, لعّل أثر ذلك ظهر في المعاملة بالمثل،  فقبل يومٍ من إعلان انفصال جنوب السودان في 10  يونيو 2011 م أغلقت الخرطوم ست صحف يومية بحجج أن بعض مُلاكها ينتمون إلى إقليم جنوب السودان بالرغم من الفترة الانتقالية التي تنص عليها الاتفاقية لم تنفذ بعد، إلا أن ما أقدمت عليه الخرطوم يُعد حدثاً في قاموس الكراهية السياسية الذي درجت عليه الخرطوم تجاه مسألة الانفصال، بالمقابل في عام 2011م  أصدر الجنوب قرار بعدم السماح للصحف السودانية بالدخول إلى أراضيها، ردود الأفعال هذه رغم محاولتها التدثر بالقاموس السياسي في ممارسة الحقوق إلا أنها ذات أثرٍ سالب في الحركة الأدبية لأنها وجهت قنابل موقوتةً إلى الذاكرة لرفض ابتدائي للمحمولات الثقافية الأخرى ، لن تفلح كل المتاريس السياسية في إيقاف نبض النغم ، فمن يحاول فصمها كأنها ينزع عن النيل قميصه الأزرق .
وزارة الثقافة و الإعلام :
الدور المنوط بوزارة الثقافة و الاعلام  بجنوب  السودان يعتبر دور مهم و حيوي ، فعلى عاتقها تقع في هذا الظرف الحرج مهمة نشر ثقافة السلام الاجتماعي عبر الاقتراب  من المشهد الثقافي ، و دعمه سواء بالرعاية أو توفير دور العرض و المعينات و فرص التدريب و تسهيل حركة المبدعين في كافة المجالات ، ليشكلوا حضوراً كاملاً في الساحة ، المهرجانات الثقافية ، معارض الكتاب ، التفكير في أنشاء مسرح قومي بمواصفات عالمية و غيرها هي ما يجب أن تخطط له الوزارة.
في ظل الحالة الانتقالية فإن مسرح الشارع يجب أن يجد التشجيع من قبلها ، و كذلك الرعاية التي تمكن وصول هذه الرسالة صوتا و صورة لكل مدن جنوب السودان لكي تصل الرسالة إلى المستهدفين ، فكثيرٌ جداً من الأعمال الثقافية سواء كتابة أو مسرحاً أو غيرها استطاعت أن تغير مسارات عجزت عنها السياسة.
بروفايل (مارتن وده ميان):
في زمن صارت فيه الكلمة و الصورة قادرة على إركاع المستحيل و تحويل بوصلته نحو ( ميس الأمان) المدثر  بأزياء حملت في بهاء ألوانها المائية ما يمكن أن يعبر في وضوح و بكل  لغات العالم   عن قدسية  ، السلام ، و الحب و الموسيقى  ، نفض مارتن وده  كفيه التي لم تكن تحملان شيئاً لكنه كعادته أراد التأكد من أنها  كذلك ،  الحرص على ذاك الفعل أصبح أحد طقوسه التي  يوديها بعد خروجه الاحتفالي من حالة العصف الذهني التي تسبق كتاباته التي  يخطط لها بأوتار موسيقية أسكنها ذاكرته فتخرج معمدة محصنة بحسن اختيار المحاور و الموضوع فتندفع امنة الى ركن في الملف الثقافي بصحيفة المشهد  وهي عامره ( بمزاج معبق بالجنزبيل )  تشتهيه القهوة عند انحيازها للكيف.
بينه و الكتابة الإبداعية والتصوير  التزام صارم ، أدرك بأن  الشمعة التي ستظل تضيئ للأجيال القادمة يشعلها دأب  البصيرة التي يعرف أن حدود الشوف هو أن يلتقط حيوية ما يعبره الأخرون  مسرعين فيدفع بها إلى ذاكرة التوثيق محصنا إياها من داء الشفاهية الذي ظل يهدر تاريخاً  تتعمد اللحظة على عدم تكرار مشاهده .
عمدته مهنة التدريس ( سلطاناً) في كرنفالات الاحتفاء بالكلمة الرصينة ، فخرج نحو المشهد الثقافي يحمل في وعيه ما يجعلك تقف كثيراً في الميني حوار مع أستيفن اوشيلا و معهد أورباب  و الرقص الاستعراضي ، مبادرات وضع منهج موحد للموسيقى بشرق إفريقيا ، قبل الإفاقة يستقبلك حواره مع أوتيم موسس و فرقة ميقا أندبندت فتشهق حين تكتشف أن أصول الاسم تعود إلى لغة الأشولي و تعني الحدث الأعظم ، فيخلد  مارتن مع أوتيم و بقية أعضاء الفرقة أن حدثاً مهما  حملته كتب التاريخ في  11 يوليو 2011م .
تجده أحد الجالسين على ناصية الملف الثقافي الذي يتجمع رواده أصحاب الحرفة  في مساء كل ثلاثاء في أحد أركان الروح   يتقنون ما سيحمله الى القراء في صبيحة اليوم التالي من دسامة تجعل الروح تتنفس نقاء الحياه بعيداً عن ما ظل القاء في المحيط من رائحة  البارود.
على مسرح الابداع وطد  مارتن  خطوه أحد ربان مجموعة الابداع  للفنون و المسرح  في مسار النيل ليضع من رحيق عشقه للدراما بصمة  كتلك التي رسمتها حواراته ، حتماً  ستحتفي به الاجيال التي تقرأ التاريخ في حيوية الراهن  ،   يعرف نهر النيل أن بالقرب من مجراه يقف   فناناً و مثقفاً و معلماً  شامخاً  يعرف كيف يجعل   الاحرف تبتسم  حين يداعبها بالكيبورد فهو حصيف في إلباسها  من خميل الابداع حلل كتلك التي  تتباهي بها عروس النيل  .
 جوبا وسلوي الأمسيات المتسربة:
في ختام المقال ألفت الانتباه إلي أن الحركة الثقافية في دولة جنوب السودان تحتاج إلى تضافر الجهود من أجل بلورةٍ طبيعيةٍ للسمة التي يجب أن تُشكل الوجدان الجنوبي الثقافي عبر إعطاء مساحة للحرية لكل التنوع الذي تزخر به شعوب الجنوب والموروث الثقافي لسوداني ما قبل الانفصال بالإضافة إلى ما دفع به التنوع للقادمين الأجانب ومحمولاتهم ، أجدني أميل إلى الختام بمقولةٍ لصامويل  وهو صديق إرتري الجنسية  قضي عشر سنوات في مدينة الديم بالخرطوم و سبع  عامرات مثلها في ضاحية أطلع بره  بمدينة  جوبا كنت قد  استطلعته ضمن آخرين في موضع المقال ( تحتاج الحركة الثقافية بدولة الجنوب إلى إخراجها من ذاكرة الحرب والخوف، فالمدن التي تحول  دار السينما إلى كنيسة تُشير إلى أنها  تنام وإحدى عينيها مفتوحة).
الهوامش :
[1] ميني حوار – افادات استيفن اوفيرا اوشلا في افادات للموقف الثقافي – حاوره مارتن وده – 13 اكتوبر 2016م.
[2]  ميني حوار – افادات اوتيم مؤسس ميقا اندبندت للموقف الثقافي  ، حاوره مارتن وده – 28 سبتمبر2016م.

[3] الملف الثقافي – صحيفة الموقف.


الصورة من محرك البحث قوقل 

عبدالكريم "أبوسروال" : وداعك علي خاطر الإنتظار (5-5)

أبوذكيه الذي بدا حياته بالنقل البحري لينتهي به الحال تاجرا بالكنغو تتردد سيرته كثيرا، سالته يا عبدالكريم قالوا كنت من السواقين بين الكنغ...